حسن الخاتمة

حسن الخاتمة

     إن اللحظات الاخيرة من حياة الآدمي لحري ّان يتدبرها العبد والمسلم خصوصا,وهو في نشاطه وصحته وما سوف يؤول اليه امره,فدائرة حياته الطويلة قد اقترب آخرها لتكتمل دائرته وتنتهي حياته,ويخرج من عالم ليدخل عالم ومن دنيا الى اخرى,فقبل مولده كان في عالم وكذلك بعد موته, فينقلب بعدها العبد إلى الشقاوة أو السعادة فالعاقل الذي يتفكر فيما هو مقبل عليه حتما ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا) رواه البخاري ومسلم. أي العبرة بما يختم به عمل العبد، وما منا من أحد إلا ويخاف أن يكون ممن يختم له بسوء الخاتمة والعياذ بالله, ومن حسن الخاتمة  ما وقع لزرارة بن أوفى رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ فإنه لما سمع قول الله تعالى (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) المدثر8 ، سقط وهو في الصلاة ومات فهذا من خشيته لربه .
    ان الله عز وجل قد هيأ لمن شاء من عباده من الاعمال في الدنيا ما يرفع بها درجاتهم في الآخرة,فان اصابتهم ضّراء صبروا وان اصابتهم سرّاء شكروا فعاشوا الحياة متنقلين بين الصبر والشكر فكانوا ممن قال الله فيهم(إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) الزمر10، فنصيب الانسان في الدنيا عمره وهو اغلى ما يملك فان احسن استغلاله للآخرة نفعه وربحت تجارته, وان اساء استغلاله وافناه في المعاصي والذنوب ندم ساعة لا ينفع الندم,وقد حذرنا ربنا من ذلك فقال(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) 102آل عمران ، فالامر بالتقوى والعبادة مستمر حتى الممات لتحصل الخاتمة الحسنة ,فلا ندري متى يأتي الاجل.
         ان كثيرا من جهلة المسلمين اعتمدوا على سعة رحمة الله عز وجل فاسترسلوا في المعاصي وشعارهم(ليوم الله يفرجها الله)وكأنهم ما تنبهوا او تغافلوا عن قوله تعالى(نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ) الحجر50،  وقال معروف الكرخي رجاؤك لرحمة من لا تطيعه من الخذلان والحمق,وقالوا:من قضى بقطع عضو منك في الدنيا بسبب سرقة دراهم معدودة فلا تأمن ان تكون عقوبته في الآخرة على نحو ذلك. وقال الحسن البصري :المؤمن يجمع إحساناً وخوفاً والمنافق يجمع تقصيرًا وأمناً.
          ان للموت سكرات يلاقيها كل إنسان حين الاحتضار ، كما قال تعالى: ( وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ) ق19، وسكرات الموت هي كرباته وغمراته ، قال الراغب في مفرداته : " السكر حالة تعرض بين المرء وعقله ، وأكثر ما تستعمل في الشراب المسكر ، ويطلق في الغضب والعشق والألم والنعاس والغشي الناشيء عن الألم وهو المراد هنا "وقد عانى الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه السكرات ، ففي مرض موته صلوات الله وسلامه عليه كان بين يديه ركوة أو علبة فيها ماء ، فجعل يدخل يده في الماء فيمسح بها وجهه ، ويقول  " لا إله إلا الله ، إن للموت سكرات "رواه البخاري, وهذا ما حصل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكيف بالظالم والكافر والعياذ بالله,فالكافر والفاجر يعانيان من الموت أكثر مما يعاني منه المؤمن ، فقد سقنا طرفاً من حديث البراء بن عازب وفيه : " أن روح الفاجر والكافر تفرق في جسده عندما يقول له ملك الموت أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب ، وأنه ينتزعها كما ينتزع السفود الكثير الشعب من الصوف المبلول ، فتقطع معها العروق والعصب " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَالنَّسَائِيُّ .
ووصف لنا القرآن الكريم الشدة التي يعاني منها الكفرة وما يلاقونه حين احتضارهم وحين تتفرق الجموع عنهم وحين لا ينفعهم جاه ولا منصب ولا مال في قوله تعالى ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ) الأنعام  93 .
بكى سفيان الثوري ليلة، فقيل له أبكاؤك هذا على الذنوب...؟؟ فأخذ تبنة من الأرض وقال الذنوب أهون من هذه، إنما أبكي خوف سوء الخاتمة، لأنه الأمر الذي يبكي عليه، ويصرف الاهتمام إليه؛ ولذلك قيل: لا تكف دمعك حتى ترى في المعاد ربعك, ولا تكحل عينك بنوم، حتى ترى حالك بعد اليوم.
 وهذه تذكرة لي ولإخواني بخطر الخواتيم، حتى يستحضر العبد هذه اللحظات الحاسمة التي يختم بها للعبد في الدنيا، ويترتب عليها مصيره في الآخرة .
1ـ خطر الخواتيم: عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ نَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رَجُلٍ يُقَاتِلُ الْمُشْرِكِينَ وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُسْلِمِينَ غَنَاءً عَنْهُمْ فَقَالَ: [مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا] فَتَبِعَهُ رَجُلٌ فَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى جُرِحَ فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَقَالَ بِذُبَابَةِ سَيْفِهِ فَوَضَعَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ فَتَحَامَلَ عَلَيْهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ وَيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا] رواه البخاري ومسلم .
قوله: [ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا]؛ أي لا تصلح الأعمال الصالحة، حتى يختم للعبد بعمل صالح، فيدخل جنة الله, فالخوف من سوء الخاتمة هو الذي طيَّشَ قلوب الصديقين، وحير أفئدتهم في كل حين، ليس لهم في الدنيا راحة:
أَرْوحُ بِشَجْوٍ ثُمَّ أَغْدُو بِمِثْلِهِ            وَتَحْسَبُ أَنِّي فيِ الثِّيَابِ صَحِيحُ
    فكم سمعنا عمن آمن، ثم كفر، وكم رأينا من استقام، ثم انحرف؛ لذلك كان كثيرًا ما يردد عليه الصلاة والسلام من دعائه: [يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ]رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد.
     ولقد ارتد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بعض من آمن، فخرجوا من النور إلى الظلمات؛ منهم عبيد الله بن جحش، ودخل في النصرانية، وارتد بعد وفاته عليه الصلاة والسلام خلقٌ ونسأل الله الثبات على الحق .
     قال ابن الجوزي: "من أظرف الأشياء إفاقة المحتضر عند موته، فإنه ينتبه إنتباهًا لا يوصف، ويقلق قلقًا لا يُحَدُّ، ويتلهف على زمانه الماضي. ويود لو ترك حتى يتدارك ما فاته، ويصدق في توبته على مقدار يقينه بالموت، ويكاد يقتل نفسه قبل موتها بالأسف". فالعاقل من مثّل تلك الساعة وهو صحيح، وعمل بمقتضى ذلك فإن من استذكر تلك الساعة يكف نفسه عن الهوى ويلتزم الحق.
والعيش نوم والمنية يقظة            والمرء بينهما خيال ساري
فمن من كانت تلك الساعة نصب عينيه، كان كالأسير لها يستذكرها قبل فعله,وذكر رجلاً رجلا بين يدي معروف بغيبة، فجعل معروف يقول له: اذكر القطن إذا وضعوه على عينيك.
2ـ خوف السلف رضي الله عنهم من سوء الخاتمة
        ان العبد قبل أن تخرج روحه، يبشر بالنعيم، أو العذاب، فمن بشر بالنعيم، أحب لقاء الله، واشتاق إليه، فأحب الله لقاءه، ومن بشر بالعذاب، كره لقاء الله وأشفق منه، فكره الله لقاءه، ومن هنا كان خوف السلف؛ لأنهم ينتظرون في هذه اللحظات إحدى البشارتين:فقد  بكى أبو هريرة عند موته،وقال والله ما أبكى حزنًا على الدنيا، ولا جزعًا من فراقكم، ولكن أنتظر إحدى البشريين من ربي، بجنة أم بنار, وعن إسماعيل بن عبيد الله أن أبا مسلم قال: جئت أبا الدرداء، وهو يجود بنفسه، فقال: ألا رجل يعمل لمثل مصرعي هذا، ألا رجل يعمل لمثل يومي هذا، ألا رجل يعمل لمثل ساعتي هذه، ثم قبض.
      ولما احتضر أبو بكر بن حبيب، وكان يدرس، ويعظ، وكان نعم المؤدب، قال له أصحابه لما احتضر أوصنا، فقال: أوصيكم بثلاث: بتقوى الله ـ عز وجل ـ ومراقبته في الخلوة، واحذروا مصرعي هذا، فقد عشت إحدى وستين سنة، وما كأني رأيت الدنيا، ثم قال لبعض إخوانه انظر هل ترى جبيني يعرق؟ فقال: نعم،فقال: الحمد لله هذه علامة المؤمن- يريد بذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الْمُؤْمِنُ يَمُوتُ بِعَرَقِ الْجَبِينِ] رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد   ثم بسط يده عند الموت، وقال:
هَا قدْ مَدَدْتُ يَدِي إلَيْكَ فَرُدَّهَا      بِالْفَضْلِ لا بِشَمَاتةٍ الأَعْدَاءِ
     وقال الشعبي: لما طعن عمر، جاء ابن عباس فقال: يا أمير المؤمنين،أسلمت حين كفر الناس،وجاهدت مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين خذله الناس، وقتلت شهيدًا، ولم يختلف عليك اثنان، وتوفى رسول الله، صلى الله عليه وسلم وهو عنك راض، فقال له: أعد مقالتك، فأعاد عليه، فقال: المغرور من غررتموه، والله لو أن لي ما طلعت عليه الشمس، أو غربت، لافتديت به من هول المطلع.
ولما حضرت محمد بن سيرين الوفاة، بكى فقيل له: ما يبكيك، فقال: أبكي لتفريطي في الأيام الخالية، وقلة عملي للجنة العالية، وما ينجيني من النار الحامية.
ولما حضرت الفضيل بن عياض الوفاة، غُشِيَ عليه، ثم أفاق، وقال: يا بُعْدَ سفري، وقلة زادي.
ولما حضرت الوفاة عامر بن عبد قيس بكى، قيل له: ما يبكيك، قال أبكي لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ(27)}سورة المائدة.
3ـ معنى سُوءِ الْخاتِمَةِ:
سوء الخاتمة أن يموت العبد على حالة سيئة، من كفر، أو جحود، أو شك، وهذه الداهية العظمى، والرزية الكبرى، فإن ذلك يوجب لصاحبه الخلود في العذاب، وأدنى من ذلك أن يموت، وهو متلبس بمعصية من معاصي الله، أو مُصِرٌّ  عليها بقلبه، والمرء يبعث على ما مات عليه, فعن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يبعث كل عبدٍ على ما مات عليه)الجمع بين الصحيحين.
4ـ أسْبَابُ سُوءِ الخاتمةِ:
ان من أسباب سوء الخاتمة مخالفة الباطن للظاهر: فقد يكون العبد بظاهره يعمل بطاعة الله، ولكنه يبطن النفاق، أو الرياء، أو يكون في قلبه دسيسة من دسائس السوء؛ كالكبر، أو العجب، فيظهر ذلك عليه في آخر عمره، ويختم له به، فتكون الخسارة الأبدية، كما في قصة الذي كان يقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبلى أحسن البلاء، ولكنه لم يفعل ذلك من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، فلما جرح استعجل الموت فانتحر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ]رواه البخاري ومسلم. فقوله صلى الله عليه وسلم: [فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ] يدل على أن باطنه، خلاف ظاهره، ولا يمكن أن تسوء خاتمة من صلح ظاهره، وباطنه، والله أعلم.
   ومن أسباب سوء الخاتمة الإصرار على المعاصي،وإلفها: قال ابن القيم: ومن عقوباتها-أي الذنوب والمعاصي- أنها تخون العبد وهو أحوج ما يكون إلى نفسه هذا وثَمَّ أمرٌ أخوف من ذلك، وأدهى منه، وأمر؛ وهو أن يخونه قلبه، ولسانه عند الاحتضار، والانتقال إلى الله، فربما تعذر عليه النطق بالشهادة؛ كما شاهد الناس كثيرًا من المحتضرين، أصابهم ذلك، حتى قيل لبعضهم: قل: لا إله إلا الله، فقال: آه آه، لا أستطيع أن أقولها. وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله، فقال: شاه رخ غلبتك، ثم قضى. وقيل لآخر: قل لا إله إلا الله، فقال:
             يا رُبَّ قَائِلَةٍ يَوْمًا وَقَدْ تَعِبَتْ    كَيفَ الطَّرِيقُ إلى حَمَّامِ مِنْجَابِ
      ومن أسباب سوء الخاتمة حب الدنيا: قال يحيي بن معاذ: الدنيا خمر الشيطان من سكر منها فلا يفيق إلا في عسكر الموتى، نادمًا بين الخاسرين. قالوا: وإنما كان حب الدنيا رأس الخطايا، ومفسدًا للدين, فأن حبها يقتضي تعظيمها، وهي حقيرة عند الله، ومن أكبر الذنوب تعظيم ما حقر اللهُ, فأن الله لعنها، ومقتها، وأبغضها، إلا ما كان له فيها، ومن أحب ما لعنه الله، فقد تعرض للفتنة,فقد  روى أبو عمر بن عبد البر عن أبي سعيد الخدري ، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان فيها من ذكر الله أو أدى إلى ذكر الله والعالم والمتعلم شريكان في الأجر وسائر الناس همج لا خير فيه" أخرجه الترمذي عن أبي هريرة وقال حديث حسن غريب. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "من هوان الدنيا على الله ألا يعصى إلا فيها ولا ينال ما عنده إلا بتركها". وروى الترمذي عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء" . وقال الشاعر :
          تسمع من الأيام إن كنت حازما         فإنك  منها  بين  ناه   وآمر 
          إذا أبقت الدنيا على المرء دينه فما       فات من شيء فليس  بضائر
           ولن تعدل الدنيا جناح بعوضة          ولا وزن زف من جناح  لطائر
           فما رضى الدنيا ثوابا لمؤمن            ولا  رضى الدنيا جزاء  لكافر
وقال ابن عباس : هذه حياة الكافر لأنه يزجيها في غرور وباطل ،  وأما حياة المؤمن فتنطوي على أعمال صالحة ، فلا تكون لهوا ولا لعبا.
أنه إذا أحبها صيَّرَها غايته، وتوسل إليها بالأعمال التي جعلها الله، وسائل إليه، وإليه الدار الآخرة، فعكس الأمر، وقلب الحكمة .
أن محبتها تجعلها أكبر هم العبد؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ] رواه الترمذي.
     ومن أسباب سوء الخاتمة العدول عن الاستقامة: فالاستقامة على دين الله نعمة من الله ، ومن شُكْرٍ هذه النعمة الاعتراف بها باطنًا والتحدث بها ظاهرًا، والاجتهاد في الطاعة، ودعوة الناس على دين الله ـ عز وجل ـ، فمن ترك الاستقامة، فقد كفر هذه النعمة العظيمة، ومن ذاق طعم الإيمان، وعرف طريق الرحمن، ثم تنكبه، وأعرض عنه، واختار طرق الضلال عليه، وآثر الغي على الرشاد، والضلالة على الهدى، والفجور على التقى، فكان ذلك أعظم أسباب سوء الخاتمة.
ومن أسباب سوء الخاتمة تعلق القلب بغير الله: إذا تعلق القلب بغير الله محبةٍ، أو توكلاً، أو خوفًا، أو رجاءً فلا بد أن يشقى العبد،فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ...] رواه البخاري . فالقلب يشقى بإعراضه عن الله، وتلعقه بغيره؛ ولذا نهى الله أن يزداد حب العبد لابنه، وأبيه، وأخيه، وزوجته، وماله؛ فيكون أكثر من حبه لله، أو لرسوله صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين(24) } التوبة. فقد حذر الله عباده ليستعدوا للموت قبل نزوله بالتوبة والعمل الصالح، قال تعالى:{ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ[54]وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ  لا تَشْعُرُونَ[55]أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ (56)} الزمر,وقال الحسن اتق الله يا ابن آدم، لا يجتمع عليك خصلتان؛ سكرة الموت، وحسرة الفوت  وقال بعض السلف: أصبحتم في أمنية ناس كثير؛ يعني أن الموتى يتمنون حياة ساعة ليتوبوا فيها ويجتهدوا في الطاعة ولا سبيل لهم إلى ذلك.
    واما علامات سوء الخاتمة:فبعضهم يقع عند اشتداد المرض في التسخط، والاعتراض على قضاء الله، أو الجحود، والكفر بـ:' لا إله إلا الله': أو يصرح بأنه لا يستطيع أن ينطق بكلمة التوحيد، وأنه يحال بينه، وبينها، أو يتكلم بكلام يغضب الله، ومن أمثلة ذلك: ما ذكره ابن الجوزي قال : سمعت شخصًا يقول-وقد اشتد به الألم-: ربي يظلمني، وهذه حالة إن لم ينعم فيها بالتوفيق للثبات وإلا فالهلاك وهذا ما كان يقلقل سفيان الثوري فإنه كان يقول: أخاف أن يشتد على الأمر، فأسأل التخفيف، فلا أجاب، فأفتتن الثبات عند الممات، لابن الجوزي[80]. ومن علامات سوء الخاتمة: أن يموت العبد على عمل يغضب الله؛ فيكون ذلك خزيًا له، وفضيحة في الدنيا، مع ما ينتظره في خزي الآخرة، وعذابها.
قال ابن القيم: والحكايات في هذا كثيرة جدًا، فمن كان مشغولاً بالله، وبذكره، ومحبته في حال حياته؛ وجد ذلك أحوج ما هو إليه، عند خروج روحه إلى الله، ومن كان مشغولاً بغيره في حال حياته، وصحته، فيعسر عليه اشتغاله بالله، وحضوره معه عند الموت، ما لم تدركه عناية ربه، ولأجل هذا، كان جديرًا بالعاقل أن يلزم قلبه، ولسانه ذكر الله حيثما كان؛ لأجل تلك اللحظة التي إن فاتت شقي شقاوة الأبد، فنسأل الله أن يعيننا على ذكره، وشكره، وحسن عبادته[طريق الهجريتين، [308ـ309].

حديث رمضان 13 
جواد عبد المحسن - 2015

إرسال تعليق

0 تعليقات