سؤاله وجوابهم
(عنزة ولو طارت)
أخرج البخاري من حديث شريك بن عبد الله بن أبي
نمر عن أنس بن مالك قال (بينما نحن جلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد
إذ دخل رجلٌ على جمل ثم أناخه في المسجد ثم عقله ثم قال أيكم محمد والنبي صلى الله
عليه وسلم متكئ بين ظهرانيهم فقلنا هذا الرجل الأبيض المتكئ فقال له ابن عبد المطلب
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم قد أجبتك فقال الرجل إني سائلك فمشدد عليك في المسألة
فلا تجد علي في نفسك فقال سل ما بدا لك فقال أسألك بربك ورب من قبلك آلله أرسلك إلى
الناس كلهم قال اللهم نعم قال أنشدك بالله آلله أمرك أن تصلي الصلوات الخمس في اليوم
والليلة قال اللهم نعم قال أنشدك بالله آلله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة قال اللهم
نعم قال أنشدك بالله آلله آمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا
فقال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم نعم فقال الرجل آمنت بما جئت به وأنا رسول من
ورائي من قومي وأنا همام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر).
هذه هي الفطرة
بابسط صورها تبرز عبر الكلمات الرقيقة الانيقة والعبارات التي تعبر عن صدق قائلها وحاجته
المركوزة في نفسه لعبادة الله الخالق ,ولا يلاحظ أي تلوث لفطرته,فالإنسان بفطرته منذ
ولادته يتجه إلى التوحيد الخالص وإلى عبادة الله تعالى وحده , عَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ
، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:( كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى
الْفِطْرَةِ ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ ، كَمَا تُنَاتَجُ الإِبِلُ
مِنْ بَهِيمَةٍ جَمْعَاءَ ، هَلْ تُحِسُّ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ ؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ
اللهِ ، أَرَأَيْتَ الَّذِي يَمُوتُ وَهُوَ صَغِيرٌ ؟ قَالَ : اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا
كَانُوا عَامِلِينَ) أخرجه مالك ((الموطأ))
و((أحمد) و((مسلم)) و عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ : قَالَ
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم(كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ ،
حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهُ لِسَانُهُ ، فَإِذَا أَعْرَبَ عَنْهُ لِسَانُهُ ، إِمَّا شَاكِرًا
، وَإِمَّا كَفُورًا) أخرجه أحمد, وصدق الله العظيم(فَأَقِمْ
وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا
تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
لَا يَعْلَمُونَ) (30) سورة الروم .
اما اصحاب
الاهواء ومن تلوثت فطرتهم واتبعوا اهواءهم فانهم جحدوا الحق مع يقينهم بصدق الرسول(قَدْ
نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ
وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)الانعام,فكانت هذه الصور القرآنية
موضحة لحال هؤلاء الجاحدين{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}87الزخرف،
فلما صح إقرارهم وبخهم منكراً عليهم بقوله: {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}الزخرف87 .ومنها قوله تعالى:{وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}القصص61 فلما صح اعترافهم وبخهم
منكراً عليهم شركهم بقوله{فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} القصص61.ومنها قوله تعالى {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ
مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الاٌّرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا
لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}العنكبوت63، فلما صح إقرارهم وبخهم
منكراً عليهم شِركهم بقوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}العنكبوت63 ومنها قوله تعالى{وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}25لقمان، فلما صح اعترافهم وبخهم منكراً عليهم بقوله
{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 25لقمان ولئن سألت -أيها الرسول- هؤلاء المشركين بالله:
مَن خلق السموات والأرض ليقولُنَّ الله فإذا قالوا ذلك فقل لهم الحمد لله الذي أظهر
الاستدلال عليكم من أنفسكم.
ومنها
قوله تعالى {ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ
ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} النمل60،59، ولا شك أن الجواب
الذي لا جواب لهم البتة غيره هو أن القادر على خلق السَّموات والأرض وما ذكر معها،
خير من جماد لا يقدر على شيء. فلما تعين اعترافهم وبخهم منكراً عليهم بقوله. {أَإِلَهٌ
مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ}60النمل. ثم قال تعالى: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ
قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ
الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً}النمل61، ولا شك أن الجواب الذي لا جواب غيره كما
قبله فلما تعين اعترافهم وبخهم منكراً عليهم بقوله: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لايَعْلَمُونَ}النمل61 ، ثم قال جلَّ وعلا: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ
إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خلَفَاءَ الْأَرْضَ }62النمل، ولا شك أن الجواب كما قبله فلما تعين إقرارهم
بذلك وبخهم منكراً عليهم بقوله {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ}62النمل، ثم قال تعالى: {أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِى
ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًى بَينَ يَدَى رَحْمَتِهِ}63النمل، ولا شك أن الجواب كما قبله فلما تعين إقرارهم
بذلك وبخهم منكراً عليهم بقوله: {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا
يُشْرِكُونَ}النمل63، ثم قال جلَّ وعلا:
{أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ
والاٌّرْضِ}27النمل، ولا شك أن الجواب كما قبله فلما تعين الاعتراف
وبخهم منكراً عليهم بقوله {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ
إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}النمل62.
(فَإِلَّمْ
يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) هود,واما الأيات التي سبقتها
فقوله تعالى(فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ
أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا
أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ
قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ
مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)هود, يقول السيد قطب عليه
رحمة الله"فتوحيد الدينونة لله وحده هو مفرق الطريق بين الفوضى والنظام في عالم
العقيدة؛ وبين تحرير البشرية من عقال الوهم والخرافة والسلطان الزائف ، أو استعبادها
للأرباب المتفرقة ونزواتهم ، وللوسطاء عند الله من خلقه وللملوك والرؤساء والحكام الذين
يغتصبون أخص خصائص الألوهية وهي الربوبية والقوامة والسلطان والحاكمية فيعبّدون الناس
لربوبيتهم الزائفة المغتصبة .
وما من نظام
اجتماعي او سياسي أو اقتصادي أو أخلاقي أو دولي ، يمكن أن يقوم على أسس واضحة فاصلة
ثابتة ، لا تخضع للهوى والتأويلات المغرضة ، إلا حين تستقر عقيدة التوحيد هكذا بسيطة
دقيقة .
وما يمكن
أن يتحرر البشر من الذل والخوف والقلق؛ ويستمتعوا بالكرامة الحقيقية التي أكرمهم بها
الله ، إلا حين يتفرد الله سبحانه بالربوبية والقوامة والسلطان والحاكمية ، ويتجرد
منها العبيد في كل صورة من الصور وما كان الخلاف على مدار التاريخ بين الجاهلية والإسلام؛
ولا كانت المعركة بين الحق والطاغوت ، على ألوهية الله سبحانه للكون؛ وتصريف أموره
في عالم الأسباب والنواميس الكونية : إنما كان الخلاف وكانت المعركة على من يكون هو
رب الناس ، الذي يحكمهم بشرعه ، ويصرفهم بأمره ، ويدينهم بطاعته؟
لقد كان
الطواغيت المجرمون في الأرض يغتصبون هذا الحق ويزاولونه في حياة الناس ، ويذلونهم بهذا
الإغتصاب لسلطان الله ، ويجعلونهم عبيداً لهم من دون الله وكانت الرسالات والرسل والدعوات الإسلامية تجاهد
دائماً لانتزاع هذا السلطان المغتصب من أيدي الطواغيت ورده إلى صاحبه الشرعي . . الله
سبحانه.
وكي لا يقوم
كل يوم طاغوت مفتر يقول للناس قولاً ، ويشرع للناس شرعاً ، ثم يزعم أنه شرع الله وأمره,
بينما هو يفتريه من عند نفسه,وفي كل جاهلية كان يقوم من يشرع الشرائع ، ومن يقرر القيم
والتقاليد والعادات . . ثم يقول : هذا من عند الله,وما يحسم هذه الفوضى وهذا الإحتيال
على الناس باسم الله ، إلا أن يكون هناك مصدر واحد. ويعقب على هذا التقرير الذي لا
مفر من الإقرار به بسؤال لا يحتمل إلا جواباً واحداً عند غير المكابرين المتعنتين
{ فهل أنتم مسلمون}هود 14 بعد هذا التحدي والعجز ودلالته التي لا سبيل
إلى مواجهتها بغير التسليم ولكنهم ظلوا بعدها يكابرون.
لقد كان
الحق واضحاً ولكنهم كانوا يخافون على ما يتمتعون به في هذه الحياة الدنيا من منافع
وسلطان ، وتعبيد للناس كي لا يستجيبوا لداعي الحرية والكرامة والعدل والعزة . . داعي
لا إله إلا الله . . لهذا يعقب السياق بما يناسب حالهم ويصور لهم عاقبة أمرهم فيقول
: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ
أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ
لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ}هود16 .
(فَإِنْ
لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ
مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ (50)القصص,واما ما سبقها من آيات
تدل على التواء الجواب مكابرة واستعلاءا قوله تعالى(وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ
مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا
رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ
الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ
يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا
إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ
أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49)القصص. أن قص عليه تلك الأنباء الدالة على صدقه
صلى الله عليه وسلم فيما يدعوهم إليه لينذر هؤلاء القوم الذين لم يأتهم نذير من قبله,
فقد كانت الرسالات في بني إسرائيل من حولهم ، ولم يرسل إليهم رسول منذ أمد طويل { لعلهم
يتذكرون } . .
فهي رحمة الله بالقوم ، وهي حجته كذلك عليهم ، كي لا
يعتذروا بأنهم أخذوا على غرة ، وأنهم لم ينذروا قبل أخذهم بالعذاب وما هم فيه من جاهلية
وشرك ومعصية يستوجب العذاب فأراد الله أن يقطع حجتهم ، وأن يعذر إليهم ، وأن يقفهم
أمام نفسهم مجردين من كل عائق يعوقهم عن الإيمان (وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ
بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا
فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) القصص 47.كذلك كانوا سيقولون
لو لم يأتهم رسول . ولو لم يكن مع هذا الرسول من الآيات ما يلزم الحجة ولكنهم حين جاءهم
الرسول ومعه الحق الذي لا مرية فيه لم يتبعوه { فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ
عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا
بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ
كَافِرُونَ }القصص 48
وهكذا لم يذعنوا للحق ، واستمسكوا بالتعلات الباطلة{ قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ
مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى }القصص48 إما من الخوارق المادية
، وإما من الألواح التي نزلت عليه جملة ، وفيها التوراة كاملة ولكنهم لم يكونوا صادقين
في حجتهم ، ولا مخلصين في اعتراضهم : { أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى
مِنْ قَبْلُ }القصص48 ولقد كان في الجزيرة
يهود ، وكان معهم التوراة ، فلم يؤمن لهم العرب ، ولم يصدقوا بما بين أيديهم من التوراة ولقد علموا أن صفة محمد صلى الله عليه وسلم مكتوبة
في التوراة واستفتوا بعض أهل الكتاب فيما جاءهم به فأفتوهم بما يفيد أنه الحق وأنه مطابق لما بين أيديهم من الكتاب؛ فلم يذعنوا
لهذا كله وادعوا أن التوراة سحر وأن القرآن سحر ، وأنهما من أجل هذا يتطابقان ،
ويصدق أحدهما الآخر { قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ
}القصص 48 .
فهو المراء إذن واللجاجة ، لا طلب الحق ولا نقصان البراهين
، ولا ضعف الدليل ومع هذا فهو يسير معهم خطوة أخرى في الإفحام والإحراج . يقول لهم
: إن لم يكن يعجبكم القرآن ، ولم تكن تعجبكم التوراة؛ فإن كان عندكم من كتب الله ما
هو أهدى من التوراة والقرآن فأتوا به أتبعه { قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }القصص49 وهذه نهاية الإنصاف ، وغاية المطاولة بالحجة
، فمن لم يجنح إلى الحق بعد هذا فهو ذو الهوى المكابر الذي لا يستند إلى دليل { فَإِنْ
لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ
مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ }القصص50 .
{ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا
يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ }القصص50 وهكذا جزما وقطعا كلمة من الله لا راد لها ولا معقب عليها فإن الذين
لا يستجيبون لهذا الدين مغرضون غير معذورين . متجنون لا حجة لهم ولا معذرة ، متبعون
للهوى معرضون عن الحق الواضح {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ
هُدًى مِنَ اللَّهِ }القصص50 وهم في هذا ظالمون { إِنَّ اللَّهَ لَا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }القصص50 .
إن هذا النص
ليقطع الطريق على المعتذرين بأنهم لم يفهموا عن هذا القرآن ، ولم يحيطوا علماً بهذا
الدين . فما هو إلا أن يصل إليهم ، ويعرض عليهم ، حتى تقوم الحجة ، وينقطع الجدل ،
وتسقط المعذرة . فهو بذاته واضح واضح ، لا يحيد عنه إلا ذو هوى يتبع هواه ، ولا يكذب
به إلا متجن يظلم نفسه ، ويظلم الحق البين ولا يستحق هدى الله . { إِنَّ اللَّهَ
لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }القصص50 ولقد انقطع عذرهم بوصول الحق إليهم وعرضه عليهم
فلم يعد لهم من حجة ولا دليل { وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ }القصص51 وحين تنتهي هذه الجولة
فيتبين منها التواؤهم ومراؤهم ، يأخذ معهم في جولة أخرى تعرض عليهم صورة من استقامة
الطبع وخلوص النية . تتجلى هذه الصورة في فريق من الذين أوتوا الكتاب من قبلهم وطريقة
استقبالهم للقرآن المصدق لما بين أيديهم { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ
قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ
إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ
يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ
وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ
وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي
الْجَاهِلِينَ }القصص 55.
إن الحق
في هذا القرآن لبين وإن حجة هذا الدين لواضحة
فما يتخلف عنه أحد يعلمه إلا أن يكون الهوى هو الذي يصده وإنهما لطريقان لا
ثالث لهما : إما إخلاص للحق وخلوص من الهوى ، وعندئذ لا بد من الإيمان والتسليم ,وإما
مماراة في الحق واتباع للهوى فهو التكذيب والشقاق ,ولا حجة من غموض في العقيدة أو ضعف
في الحجة أو نقص في الدليل كما يدعي أصحاب الهوى المغرضون .
واخيرا
في هذه الليلة المباركة ليلة الاحد الموافق8\12\2013وانا احاول ان اختم هذا
الموضوع كتب على التلفزيون الخبر العاجل ونصه(مجلس الشورى:الدعوة السلفية تقرر التصويت
ب(نعم)على الدستور المصري الجديد)فلم استطع الا ان اقول صدق الله العظيم ﴿وَأَنَّ
هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ
بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ الأنعام، 153,وقد علق شريف زايد رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير في
ولاية مصر فقال:
أن يتم
وضع دستور للبلاد من لجنة أكبرهم فيها معاقرٌ للخمر، وأصغرهم مشهورٌ باسم "بانجو"،
وأوسطهم مخرجٌ لأفلام ساقطة، يدعمه ممثل يطالب بأن يُكتب في الدستور أن هضبة الهرم
مصرية لأن حضرته يسكن هناك، وآخر يطالب بأن لا يقال في الدستور أن دين الدولة الرسمي
هو الإسلام لأنه خريج الأزهر ويعرف أن الدولة عبارة عن "مبانٍ وطرق"، ثم
يطبل ويزمر لهذا الدستور المتهرئ مَنْ هم على شاكلة هؤلاء من العلمانيين وسدنة الانقلاب،
فهذا كله أمر منطقي متوقع، مقبول مبرر من منظور هؤلاء، ولكن أن ينضم لجوقة المهللين
هذه حزب النور السلفي، الذي سيعمل على حشد أبناء الدعوة السلفية للتصويت بنعم، فهذا
هو غير المقبول وغير المبرر.
ورغم أن هذا الدستور المعدَّل لا يختلف عن سابقه الذي
عُدِّل في كونه دستور كفر يؤسس لنظام كفر يخالف نظام الحكم في الإسلام - فهو كسابقه
يجعل السيادة في الدولة للشعب، يحلل ويحرم ويحسن ويقبح كيفما يشاء، وينزع هذا الحق
من الشارع الحكيم سبحانه وتعالى، وهو كسابقه ينطبق عليه حديث رسول الله صلى الله عليه
وسلم الذي رواه عدي بن حاتم الطائي حيث قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي
عنقي صليب من فضة، فقال: «يا عدي اطرح عنك هذا الوثن» وسمعته يقرأ في سورة براءة
﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾،
قال: «أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا
حرموا عليهم شيئا حرموه»" إلا أن المواد التي كان يفتخر بها حزب النور في
دستور 2012 والتي أسماها "مواد الهوية" قد تم حذفها، بل إن مندوب الكنيسة
شكر المفتي على تنازله عن تقييد المساواة بين الرجل والمرأة بأحكام الشريعة، وما زال
هؤلاء يتحدثون عن "إنجازاتهم العظيمة"
لا نظن أن حزب النور قد حسم موقفه هذا انطلاقا من القاعدة
الشرعية "الأصل في الأفعال التقيد بالحكم الشرعي"، حتى نناقشه في
حكم الإسلام أنه لا يجوز الاستفتاء على الدستور ابتداء! فالدستور هو الأحكام العامة
التي تبين شكل الدولة وأعمال كل سلطة فيها، والنظام الأساس الذي يُسَيِّر أعمال الناس
كلها في جميع المجالات، من اقتصادية واجتماعية وسياسية وغيرها، وهذه كلها قوانين، أي
أحكام تحدد أفعال الإنسان، وهذه يجب أخذها من النصوص الشرعية باستنباط صحيح حسب قوة
الدليل، وليس حسب أغلبية آراء الناس، فلا يجوز التصويت على أحكام الشرع ابتداءً! قال
تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب، 36]، فيأثم من يدعو إلى
التصويت ويأثم من يذهب ليصوت.
لقد غرق كثير من المسلمين - وللأسف - حتى قمة رأسهم
في اللعبة الديمقراطية القذرة، يمارسونها بانتهازية تتضاءل أمامها انتهازية أعتى العلمانيين
المكيافيليين، وهي خادعتهم؛ تحقق منهم ما تريد ثم ترمي بهم على قارعة الطريق كما فعلت
مع (إخوانهم) الذين كانوا في الحكم، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
جواد عبد المحسن
حديث رمضان 13
2015
0 تعليقات