(
وجعلنا من الماء كل شىءحي افلا يؤمنون) الانبياء 30
لقد
كان العرب في الصحراء المقفرة المجدبة يعتمدون في حلهم وترحالهم على وجود الماء
وعدمه,فانه بالنسبة لهم عصب الحياة,ولما جاءهم الهدى من ربهم وآمنوا ادركوا هذا
الخطاب من الله ادراكا حسيا لانه لامس عناءهم في طلبه وتعلق حياتهم به فانه مادة
حياتهم وقد خاطبهم الله فقال (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ
مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) العنكبوت ، إنهم مقرّون بان
الله هو الخالق ، وهو الرازق ، وهو مدبّر الكون ، لكنهم انحرفوا وعبدوا غيره ولذلك
يتعجب من أقوالهم ويقول :
{ قُلِ الحمد لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ
}قل يا محمد ، الحمدُ لله على اعترافهم بالحق ، ولكن اكثرهم لا يَستعملون عقولهم ،
ولا يفهمون ما يقعون فيه من تناقض .
يقول
الدكتور محمد راتب النابلسي( من منا يصدق، أنني وقفت عند رقمٍ أذهلني، أنه في كل
ثانيةٍ حصراً، في كل ثانيةٍ تمضي، يهطل من السماء إلى الأرض على مستوى الكرة الأرضية،
ستة عشر مليون طن من الماء, قال تعالى: ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا
تُوعَدُونَ﴾ سورة الذاريات الآية: 22 من أجل قوام الحياة، ولكن هذا السقوط يتبدَّى
فيه اسم اللطيف، فلو أن هذا الماء هوى على الأرض، بشكلٍ متصل مجمَّع لأتلف كلَّ شيء،
ولحطَّم كل شيء، ولأنهى الحياة، ولكنه ينزل على شكل قطراتٍ صغيرةٍ فيها لطفٌ، وفيها
رحمةٌ، وفيها حكمة) .
(وجعلنا ) إن تعدت
لواحد كانت بمعنى وخلقنا من الماء, فكل
حيوان مادته النطفة قاله قطرب وجماعة, أو لما كان قوامه الماء المشروب وكان محتاجا
إليه لا يصبر عنه جعل مخلوقا منه قاله الكلبي وغيره
، وتكون الحياة على هذا حقيقة ويكون كل شيء عاما مخصوصا إذ خرج منه الملائكة والجن
فليسوا مخلوقين من نطفة ولا محتاجين للماء, ذكر ابن كثير ما نصه: وقوله( وجعلنا
من الماء كل شيء حي) الانبياء 30 أي أصل كل الأحياء, عن أبي هريرة قال,
قلت: يا رسول الله إني إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني, فأنبئني عن كل شيء,
قال:كل شيء خلق من ماء قال, قلت أنبئني عن أمر إذا عملت به دخلت الجنة؟ قال:
أفش السلام, وأطعم الطعام, وصل الأرحام, وقم بالليل والناس نيام, ثم ادخل الجنة
بسلام( مسند أحمد بن حنبل). وقال قتادة :
أي خلقنا كل نام من الماء فيدخل فيه النبات والمعدن ، وتكون الحياة فيهما
مجازا أو عبر بالحياة عن القدر المشترك بينهما وبين الحيوان وهو النمو ويكون أيضا
على هذا عاما مخصوصا ، وإن تعدت ( جعلنا ) لاثنين فالمعنى صيرنا ( كل شيء حي بسبب من الماء لا
بد له منه . (أفلا يؤمنون) استفهام إنكار وفيه معنى التعجب من ضعف
عقولهم ، والمعنى أفلا يتدبرون هذه الأدلة ويعملوا بمقتضاها ويتركوا طريقة الشرك.
والتفكر في معنى كلمة (وجعلنا)فيه من
المعاني ما يفهم, حيث أن الجعل يعني الصيرورة أي التحول من شكل لآخر، فمثلا تقول بأني
جعلت الماء ثلجا وهذا يعني بأن شكل الماء تحول من الحالة السائلة إلى الصلبة او
صيرته بخارا, و لكنه لا يزال ماء, فإذا جعل كل شيء حي من الماء يعني بأن الله خلق كل
خلقه من الماء أي أن كل شيء خلقه الله يجب أن يكون له ذات تصميم الماء و خصائصه و أن
كل شيء نراه هو ماء بهيئات مختلفة أي عندما تنظر إلى إنسان فهو ماء بهيئة إنسان و عندما
تنظر إلى الشجر فهو ماء بهيئة شجر و هذا ينطبق على كل شيء في خلق المولى عز و جل.
ولقد ورد ذكر فعل جعل في القرآن في مواضع
عديدة(46) وكل اشتقاق لهذا الفعل اتى بمعنى يفيد الصيرورة او الخلق: اجْعَل
اجْعَلُوا اجْعَلْنِي أَتَجْعَلُ أَجَعَلَ أَجَعَلْتُمْ أَجَعَلْنَا أَفَنَجْعَلُ
تَجْعَلَ تَجْعَلُواتَجْعَلُونَهُ تَجْعَلْنَا تَجْعَلْنِي جَاعِلٌ جَاعِلُكَ
جَعَلَ جَعَلَا جَعَلَتْهُ جَعَلَكُم جَعَلَهَا جَعَلَهُ جَعَلُوا جَعَلْتُمُ
جَعَلْنَاكَ جَعَلْنَاكُمْ جَعَلْنَاهَا جَعَلْنَاهُ جَعَلْنَاهُمْ جَعَلْنَا
سَيَجْعَلُ فَاجْعَل فَجَعَلَ فَجَعَلَهُ فَجَعَلَهُمْ فَجَعَلْتُم فَجَعَلْنَاهَا
فَجَعَلْنَاهُ فَجَعَلْنَاهُمُ فَجَعَلْنَاهُنَّ فَجَعَلْنَا فَنَجْعَل فَيَجْعَلَهُ
لَأَجْعَلَنَّكَ لَجَاعِلُونَ لَجَعَلَ لَجَعَلَكُمْ.
يقول الشعراوي:
{ وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ }الأنبياء30 يعني كل شيء فيه حياة فهو من الماء ، لا أن الماء داخل
في كل شيء ، فالمعنى{كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}الأنبياء 30 أي كل شيء موصوف بأنه حي ، فالماء إذن دليل الحياة؛
لذلك إذا أراد العلماء أن يقضوا على الميكروبات أو الفيروسات جعلوا لها دواءً يفصل
عنها المائيةَ فتموت .
والإنسان الذي كرَّمه الله تعالى وجعله أعلى
الأجناس ، خلقه الله من الماء ، { وَهُوَ الذي خَلَقَ مِنَ المآء بَشَراً فَجَعَلَهُ
نَسَباً وَصِهْراً }الفرقان 54,فالخلق هو الايجاد من عدم والجعل هو
التصيير, وفي موضع آخر قال سبحانه : { فَلْيَنظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ
مِن مَّآءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترآئب } الطارق 57 وهو
ماء له خصوصية ، وهو المنيُّ الذي قال الله فيه{ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ
يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} القيامة37و38.
ويقول: والبشر أي الإنس { فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً }الفرقان54 فمن
الماء خلق الله البشر ، وهم قسمان : ذكور وإناث ، فكلمة ( نَسَباً ) تعني : الذكورة
( وَصِهْراً ) تعني : الأنوثة؛ لأن النسب يعني انتقال الأدنى من الأعلى بذكورة
، فيظل الإنسان فلان بن فلان بن فلان ,فالنسب يأتي من ناحية الذكورة ، أما الأنوثة
فلا تأتي بنسب إنما مصاهرة حينما يتزوج رجل ابنتي أو أتزوج ابنته يُسمُّونه صِهْرا في قول الشاعر:
وَإنَّما أُمَّهَاتُ القَوْمِ أَوْعِية
مُسْتحدثَات ولِلأَحْسَابِ آبَاءُ
فمن عظمة الخالق عز وجل أن خلق من الماء هذيْن الشيئين
، كما قال في موضع آخر { فَجَعَلَ مِنْهُ
الزوجين الذكر والأنثى } [ القيامة : 39 ].
جواد عبد المحسن
حديث رمضان 13
2015
0 تعليقات