المسابقة والمسارعة في القرآن

المسابقة والمسارعة في القرآن

     آيتان في القرآن الكريم، تدعوان المؤمنين إلى المسابقة إلى المغفرة والجنة، والمسارعة إليهما، و موضوع الآيتين واحد إلا أن بينهما اختلافاً مقصوداً في الصياغة، وفروقاً في جملهما وكلماتهما. فهما من باب (المتشابه اللفظي) في القرآن، وهذا المتشابه اللفظي من صور أساليب البيان الرائعة في القرآن، ومن مظاهر الإعجاز البياني فيه.
ولننظر في الآيتين نظرات بيانية تحليلية، ولنحاول الوقوف على الفروق المقصودة بينهما، ولنحاول فهم الاختلاف للخروج بدلالات ونتائج، تزيدنا التزاماً وتطبيقاً،
قال الله عز وجل في سورة الحديد: {سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض، أعدت للذين آمنوا بالله ورسله، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم} الحديد21.وقال الله عز وجل في سورة آل عمران: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين . الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين} آل عمران 133-134.
ففي آية سورة الحديد أمر الله المؤمنين أن (يسابقوا) إلى مغفرة الله وجنته،وأخبرهم أن عرض الجنة التي يسابقون إليها كعرض السماء والأرض، وأن الله أعد تلك الجنة العريضة للمؤمنين بالله ورسوله، وذكر أن هذا كله فضل من الله، يتفضَّل به على من يشاء من عباده المؤمنين، وفضل الله عظيم، يمنُّ به على من يراه أهلاً له.
وفي آية سورة آل عمران: أمر الله المؤمنين أن (يسارعوا) إلى مغفرة الله وجنته، وأخبرهم أن عرض الجنة التي يسارعون إليها هو السماوات والأرض، وأنه أعد هذه الجنة لعباده المتقين، وذكر بعض صفات المتقين الفائزين، فهم الذين ينفقون في السراء والضراء، وهم الذين يكظمون الغيظ، وهم الذين يعفون عن الناس، وهم أحباب الله، أحبهم الله لأنهم محسنون، والله يحب المحسنين، وهم الذين يسارعون إلى التوبة والاستغفار إذا أذنبوا…
ان هناك فروق بين الآيتين مع أن موضوع الآيتين واحد إلا أنه يمكن تسجيل الفروق التالية بينهما:
1.لم تُذكر الواو في مطلع آية سورة الحديد: {سابقوا إلى مغفرة…}، بينما ذكرت الواو في مطلع سورة آل عمران: {وسارعوا إلى مغفرة…}.
2.أمر الله في الآية الأولى بالمسابقة: {سابقوا} بينما أمر في الآية الثانية بالمسارعة: {وسارعوا} فما الفرق بين المسابقة والمسارعة؟! وما الفرق بين الثلاثي والرباعي في الأمرين: “سابقوا وسبقوا” و: “سارعوا وسرعوا”
3.أخبرت الآية الأولى أن عرض الجنة كعرض السماء والأرض، فأدخلت الكاف على “عرض”، حيث قالت: {عرضها كعرض السماء والأرض}، بينما أسقطت الآية الثانية الكاف، وقالت: {عرضها السماوات والأرض…}.
4.عبرت الآية الأولى عن السماء بلفظ المفرد، فقالت: {كعرض السماء والأرض}، بينما عبرت الآية الثانية بلفظ الجمع: (السماوات). فقالت: {عرضها السماوات والأرض}. فأيهما أعرض؟! وما حكمة العدول عن المفرد إلى الجمع؟!
5.ذكرت الآية الأولى أن الله أعد الجنة للذين آمنوا بالله ورسله، فقالت: {أعدت للذين آمنوا بالله ورسله}. بينما ذكرت الآية الثانية أن الجنة أعدت للمتقين: {أعدت للمتقين}. فهل المؤمنون المذكورون في الأولى هم المتقون المذكورون في الثانية؟! وإذا كانوا غيرهم فما الفرق بين الفريقين؟!
6.عقبت الآية الأولى على نعيم الجنة بأنه فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده، فقالت {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم} بينما لم تذكر الآية الثانية هذا التعقيب فما حكمة ذكر هذا التعقيب في الآية الأولى وسكوت الآية الثانية عنه.
7.لم تتحدث سورة الحديد بعد الآية الأولى عن صفات أصحاب الجنة وإنما انتقلت إلى موضوع آخر، فقالت في الآية التي بعدها: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها، إن ذلك على الله يسير} الحديد22. بينما عرضت سورة آل عمران أهم صفات المتقين، فقالت: { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ(133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) }آل عمران.
ان سياق آية سورة الحديد في المقارنة بين الدنيا والآخرة وزوال الدنيا وبقاء الآخرة ونعيم الدنيا في مقابل نعيم الآخرة، ومن ثم دعوة المؤمنين إلى عدم الاكتفاء أو الانشغال بنعيم الدنيا، وترك نعيم الآخرة، ولذلك تدعوهم إلى المسابقة في نعيم الآخرة، والحصول على الخلود في الجنة. ولذلك قال الله في الآية التي قبلها: {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته، ثم يهيج فتراه مصفرّاً ثم يكون حطاماً، وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور}الحديد:20 ولذلك كان موضوع آية سورة الحديد دعوة المؤمنين إلى المسابقة إلى الجنة التي هي كعرض السماء والأرض، وترغيبهم في هذا السباق، بتقرير أن الفوز فيه فضل من الله يؤتيه من يشاء. والمؤمن لا يفضِّل عليه متاع الدنيا القصير سريع الزوال.
أما سياق آية سورة آل عمران فهو ليس عن المؤمنين بالله ورسله، المسابقين إلى المغفرة والجنة، وإنما هو في الحديث عن (المتقين)، الذين اتصفوا بصفات خاصة، والتزموا التزاماً خاصّاً، وأطاعوا طاعة خاصة، وسابقوا سباقاً خاصّاً، ثم سارعوا مسارعة خاصّة، وبذلك أفلحوا فلاحاً خاصّاً.. إن سياق آية سورة آل عمران يتحدث عن المتقين وليس مجرد المؤمنين، الذين تركوا الحرام، واتقوا الله، واتقوا النار، وأطاعوا الله ورسوله، وأفلحوا وفازوا ونالوا رحمة الله، وسارعوا السير إلى جنته، فدخلوا بفوزهم وفلاحهم، ورحمة الله بهم. وندعو إلى قراءة الآيات السابقة على آية سورة آل عمران بتدبر وإمعان. قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)آل عمران.
وخلاصة التفريق بين سياق الآيتين أن آية سورة الحديد تتحدث عن المؤمنين المسابقين المتسابقين، بينما تتحدث آية سورة آل عمران عن المتقين المسارعين المتسارعين، ومعلوم أن الصنفين ليسا على درجة واحدة، فالمتقون أعلى درجة من المؤمنين، لأنهم جمعوا بين الإيمان والتقوى.
ولنحاول فهم الفروق بين الآيتين ، مستصحبين موضوع كلٍّ منهما، واختصاصهما بالحديث عن صنف خاصٍّ من المسلمين.
1. حذف القرآن حرف العطف من آية سورة الحديد لأنه جعلها نتيجة للآية التي قبلها، حيث أمر فيها المؤمنين بالعلم بسرعة زوال الدنيا، وعدم قيمتها بالنسبة للآخرة، فبعد أن قال: {اعلموا} في الآية السابقة ذكر في هذه الآية ما يجب أن يترتب على العلم، وهو المسابقة، فقال: {سابقوا إلى مغفرة..}.
بينما ذكر حرف العطف في آية آل عمران: {وسارعوا}، لأن الكلام في الآيات عن مجموعة من الأوامر، التي ينتج عنها مجموعة من الأفعال، وهذه الأوامر والأفعال معطوف بعضها على بعض بواو العطف: { وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)آل عمران. فذكر حرف العطف .
2. الفرق بين المسابقة والمسارعة:
أمر في آية سورة الحديد بالمسابقة، وأمر في آية سورة آل عمران بالمسارعة، وقد يظن بعض قصيري النظر بأن الأمرين بمعنى واحد، وهذا مردود لأنه لا ترادف في القرآن. فالآيتين تتحدثان عن السباق إلى الجنة، لكن كل آية تتحدث عن مرحلة من مراحل السباق, فأي سباق مهما كان نوعه ومسافته لا بد له من مرحلتين الأولى مرحلة السباق والانطلاق، والثانية مرحلة الإسراع في السباق. وأوضح ما يكون هذا في سباق الجري، فعندما يبدأ الشوط الأول يتسابقون وبعد فترة يسارعون في السباق, فيبدأ السباق إلى الجنة في آية سورة الحديد حيث ينطلق المسابقون وفي منتصف الطريق تبدأ المرحلة الثانية، وهي المسارعة في السباق، بأن يضاعف المسابقون سرعتهم، ويتحولون من مجرد مسابقة إلى المسارعة في المسابقة ولا ننسى أن بعض المسابقين قد يسقط في الطريق، ويخرج من السباق، ولا يصل إلى مرحلة المسارعة إلا أصحاب الطاقات والهمم والسرعات والعزائم.
وعلى ضوء هذا البيان ندعو إلى ملاحظة الفاعلين للفعلين في {سابقوا} و{سارعوا} فالفاعلان المأموران مختلفان فواو الجماعة في فعل {سابقوا} تعود على المؤمنين المسابقين، بينما واو الجماعة في فعل {سارعوا} تعود على المتقين المسارعين في السباق ومعلوم أن بعض المؤمنين قد لا يتمكن من إكمال السباق، فلا يصل إلى مرحلة المسارعة  وأما المتقون فإن زاد التقوى عندهم يعينهم على إكمال أشواط المسارعة.
3. ذكر الكاف وحذفها:ان الجنة التي يتسابق إليها المؤمنون: {عرضها كعرض السماء والأرض} ولذلك أدخل حرف الكاف على العرض. أما الجنة الثانية التي يسارع إليها المتقون فإن عرضها: {السماوات والأرض} بدون حرف الكاف.
وحكمة إدخال الكاف على آية المسابقة في الحديد أن الجنة التي يتسابقون إليها أعرض، وحكمة حذف الكاف من آية آل عمران أن الجنة التي فيها أقل عرضاً. والجنة الأولى أعرض لأن عدد المسابقين إليها أكثر، فهم مؤمنون بالمفهوم العام، أما الجنة الثانية في آل عمران فإنها أقل عرضاً من جنة سورة الحديد، لأنها للمتقين المسارعين إليها، ومعلوم أن المتقين أقل عدداً من المؤمنين، ولذلك كانت الطريق التي يتسابقون فيها أقل عرضاً من طريق الأولين، وكانت الجنة التي يتسابقون إليها أقل عرضاً كذلك، ولذلك ذكرت الكاف في الآية الأولى دون الثانية.
4. الفرق بين (السماء) و(السماوات)ان الجنة التي يسابق إليها المؤمنون في آية الحديد {عرضها كعرض السماء والأرض}، فذكرت (السماء) بلفظ المفرد. و(السماء) هنا اسم جنس، ينطبق على المفرد والجمع، وحكمة التعبير بالمفرد هنا أن هذه الجنة أعرض لأنها المتسابقين إليها أكثر، وهم المؤمنون.
أما آية آل عمران فقد اختارت الجمع: (السماوات)، فقالت: {وجنة عرضها السماوات والأرض} والتعبير بالجمع في مقابل اسم الجنس يدل على أن العدد أقل، وذلك لأن عدد المسارعين إلى الجنة التي عرضها السماوات أقل من عدد المسابقين إلى الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض، لأنهم متقون في مقابل المؤمنين، والمتقون أقل عدداً من المؤمنين.
ان (السماء) اسم جنس، وهو أعم من الجمع (السماوات) والسماء أعرض من السماوات لأن مساحة اسم الجنس أوسع من مساحة الجمع، فالسماوات أقل عرضاً من السماء ويشير إلى هذا قوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات} البقرة: 29. ونلاحظ كيف جعلت الآية المفرد (السماء) أصلاً انبثق منه الجمع (السماوات)، لنعرف أن المفرد أعم وأكثر وأوسع من الجمع.فمثلا تقول: عندي أرض كبيرة وعندما تقسمها تقول عندي عدة أراضٍ. فالأراضي أقل من الأرض بهذا الاعتبار.
5. المؤمنون المسابقون أكثر من المتقين المسارعين فذكرت آية الحديد أن الجنة{أعدت للذين آمنوا بالله ورسله}. وذكرت آية آل عمران أن الجنة {أعدت للمتقين}.
6. التشجيع والترغيب في الحديد:عقبت آية الحديد على سباق المؤمنين إلى الجنة العريضة بأن هذا فضل من الله، فقالت: {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم}، فالمسابقون فيها هم مؤمنون آمنوا بالله ورسله، وسباقهم ما زال في بداياته، وهم بحاجة إلى مزيد من الترغيب والحث والتشجيع، حتى يستمروا في السباق، ويزيدوا من سرعتهم فيه، ولم تذكر آية آل عمران هذا التعقيب، لأن المسارعين فيها إلى الجنة هم المتقون، وهم ليسوا بحاجة إلى تشجيع وتحميس وحث، لأنهم ارتقوا إلى درجة أعلى، استشرفوا فيها الجنة التي يسارعون إليها، فغذُّوا السير إليها، وضاعفوا سرعتهم نحوها.

7. دعوة للاتصاف بصفات المتقين:ان السياق في آية آل عمران حديث عن أهم صفات المتقين المسارعين إلى الجنة الخاصة، فذكر أنهم ينفقون في سبيل الله في السراء والضراء، ويكظمون الغيظ، ويعفون عن الناس، ويحسنون في الصلة بالله، ويسارعون إلى التوبة والاستغفار… وذكر هذه الصفات للإشارة إلى أنهم نجحوا في التربية، وترقُّوا في التزكية، وفازوا في المسارعة إلى الجنة، ودخلوها برحمة الله فكان حالهم {أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين} آل عمران: 136.وهذا الثناء عليهم دعوة للمؤمنين المتقين إلى الاقتداء بهم، في الاتصاف بتلك الصفات، وفي الفوز بالجنات,فآية سورة الحديد أعم وأشمل، ولذلك اختارت ألفاظاً تدل على ذلك العموم، أما آية سورة آل عمران فإنها أخص، ولذلك اختارت ألفاظاً تدل على ذلك الخصوص والله اعلى واعلم.(من مقال  د. صلاح عبد الفتاح الخالدي بتصرف). 

جواد عبد المحسن
حديث رمضان-13
2015

إرسال تعليق

0 تعليقات