القول الفصل

القول الفصل

قوله تعالى: { فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) } (يونس:94) ذهب الإمام الطبري عند تفسير هذه الآية إلى القول بأن الخطاب في الآية الكريمة موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الخطاب فيها من باب الحقيقة، وليس من باب المجاز؛ ثم وجِّه القول فيما ذهب إليه مستدلاً له -على عادته- بما روي في هذا الشأن من روايات؛ كالمروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في معنى الآية، قوله: {فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك} قال: التوراة والإنجيل، الذين أدركوا محمداً صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب فآمنوا به.
1-        وافترض الطبري هنا سؤالاً، فقال: فإن قال قائل: أَوَ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في شك من خبر الله أنه حق ويقين، حتى قيل له: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك}؟ ثم أجاب عن هذا التساؤل، قائلاً: لا، ويؤكد نفي وقوع الشك عنه صلى الله عليه وسلم بما روي في ذلك من آثار؛ كقول سعيد بن جبير، وقد سئل عن قوله تعالى: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك} قال: لم يشك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسأل. وأيضاً بما روي عن قتادة في الآية نفسها، قال: ذُكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا أشك، ولا أسأل.
وبعد أن ساق الطبري الروايات التي تؤيد ما ذهب إليه، نراه يجيب على التساؤل الذي قد يعرض للناظر في هذه الآية، والمتعلق بوقوع الشك من النبي صلى الله عليه وسلم، ويقرر في ذلك أن الكلام في الآية جار على حسب أسلوب كلام العرب، وبما يوافق معهودهم ومعتادهم؛ وبيان هذا أن من معهود العرب في كلامها أن يقول السيد لمملوكه: (إن كنت مملوكي، فانته إلى أمري) والعبد المأمور بذلك، لا يشك سيده القائل له ذلك، أنه عبده. كذلك قول الرجل منهم لابنه: (إن كنت ابني فبرني) وهو لا يشك في ابنه أنه ابنه. ويعقب على ما قرره بالقول: إن ذلك من كلامهم صحيح مستفيض فيهم. ثم يأتي بشواهد من القرآن الكريم تدعم هذا الأسلوب المعهود في كلام العرب؛ كقوله تعالى: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} (المائدة:116) والله يعلم جل ثناؤه أن عيسى لم يقل ذلك فهذه الآية الكريمة هي على نسق الآية التي معنا.
2-        ان المسلم مؤمن بقضاء الله ايمانا راسخا لا تزعزعه الظروف والاوضاع والاحوال وان الله عز وجل مؤيده وناصره,وحتى بينه وبين نفسه لا يشك للحظة في هذا الامر وصدق الله العظيم(وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)النساء.
3-        اما الامر التالي فهو ان الفرج واليسر والسعة وكل ما يدور ضمن هذه الدائرة فلا يوصف الحال بانه فرج الا بعد شدة ولا يوصف اليسر الا بعد عسر ,فلا يتميزالحلو بانه حلو الا بعد مرار .
4-        ان المطلوب الاساسي من المسلم هو التعلق بحبال الله تعلقا عقائديا وادراكه بانه بمعية الله .وهذا ما فهمه الاوائل من الصحابة في غزوة الخندق ففي هذه الاحوال من الخوف الشديد وهذا الوضع الذي عانى منه المسلمون من شدة الضيق وهم في الخندق قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم(إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأصفر)سنن الترمذي,وخلاصة القول ان الاعتقاد بنصر الله اوضح مما تراه العين,والعقيدة مقدمة على البصر.
5-        ان المسلم مسؤول عن عمله وتقيده بامر الله ونهيه حين قيامه بالعمل ,وهو غير مسؤول عن النتائج مطلقا ,فالنتيجة بيد الله ولا دخل للمسلم بها فاعتقاده ان الله هو الناصر والرازق واي خلل او موقف يخالف هذه العقيدة زلل.
ان المسلم هوالذي استخلفه الله وهو من الامة الوسط الممدوحة من الله عز وجل(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)البقرة143 وهذه منزلة كريمة اعز الله بها كل مؤمن فلا يصح له ان يذل نفسه بعد ان اكرمه الله,فقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم( لا ينبغي للمؤمن ان يذل نفسه)المعجم الاوسط,فاذا وصفه غيره بانه مستضعف فلا يعني ذلك انه كذلك ,وصدق الله العظيم(قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76)الاعراف فلم يكن جوابهم ينم عن ضعف او انهزام بل بكل ثقة واطمئنان(إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ),فالوصف جاء من المستكبر أي مستكبر في أي وقت فهو لا يرى غيره او لا يكاد .
 ان وضع الذين آمنوا في مكة كان صعبا والمستكبرون تجاوزوا كل حد,وكان الرجل يدخل في جوار يحميه وكان عثمان بن مظعون قد دخل فى جوار الوليد بن المغيره ولما رأى ما يفعل بالمسلمين من الاذى قال والله ان غدوى ورواحى امنا بجوار رجل من أهل الشرك وأصحابي وأهل دينى يلقون من الاذى فى الله مالا يصيبنى لنقص كبير فمشى الى الوليد فقال يا أبا عبدشمس وفت ذمتك وقد رددت اليك جوارك قال له يا ابن أخى لعله اذاك أحد من قومى وأنت فى ذمتى فأكفيك ذلك قال لا والله ما اعترض لى أحد ولا اذانى ولكن أرضى بجوار الله عز وجل وأريد أن لا أستجير بغيره قال انطلق الى المسجد فاردد الى جوارى علانية كما أجرتك علانية فانطلقا حتى أتيا المسجد فقال الوليد هذا عثمان قد جاء يرد على جوارى فقال عثمان صدق وقد وجدته وفيا كريم الجوار ولكنى لا أستجير بغير الله عزو جل قد رددت عليه جواره فقال الوليد أشهدكم أنى برىء من جواره الا أن يشاء ثم انصرف عثمان ولبيد بن ربيعة بن مالك فى مجلس من قريش ينشدهم قبل اسلامه فجلس عثمان معهم فقال لبيد: (ألا كل شىء ما خلا الله باطل) فقال عثمان صدقت فقال لبيد (وكل نعيم لا محالة زائل) فقال عثمان كذبت نعيم الجنة لا يزول فقال لبيد يا معشر قريش ما كان يؤذى جليسكم فمتى حدث هذا فيكم فقال رجل من القوم ان هذا سفيه فمن سفاهته فارق ديننا فلا تجدن فى نفسك من قوله فرد عليه عثمان فقام ذلك الرجل فلطم عينه والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان فقال أما والله يا ابن أخى كانت عينك عما أصابها لغنية ولقد كنت فى ذمة منيعة فخرجت منها وكنت عن الذى لقيت غنيا فقال عثمان رضى الله تعالى عنه بل كنت الى الذى لقيت فقيرا والله ان عينى الصحيحة التى لم تلطم لفقيرة الى مثل ما أصاب أختها فى الله عز وجل ولى فيمن هو أحب الى منكم أسوة وانى لفى جوار من هو أعز منك.


جواد عبد المحسن
حديث رمضان 13
2015

إرسال تعليق

0 تعليقات