الملأ

الملأ

تتابعت رسل الله – تعالى– إلى البشرية تدعوها إلى دين الله و منهجه , و تجعلها على الجادة من الطريق قال تعالى : ( ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ) [المؤمنون 44] و تضافرت جهود الأنبياء – عليهم الصلاة و السلام – على الدعوة إلى دين الله الذي لا يقبل من الناس سواه , و حملوا راية التوحيد و هتفوا جميعا بقومهم : ( يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)[الأعراف 59 – 65 – 73 – 85 ]و قد قرر الله هذه الحقيقة قاعدة عامة في دعوة كل الرسل – عليهم الصلاة و السلام – بعد أن ذكرها على لسان كل منهم فقال: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ) [الأنبياء 25] , (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)[النحل 36].
ان هذه الدعوة التي جاء بها رسل الله – تعالى– هي دعوة إلى توحيد الله – تعالى– و إخلاص العبادة بكل أنواعها لله الواحد الأحد , و هي التنديد بالكفر و الشرك و أهلهما , و دعوة إلى اجتناب الأوثان و الطواغيت , مهما تعددت أشكالها و ألوانها و صورها, و دعوة إلى إسقاط الأقنعة الزائفة التي يتستر وراءها أولئك الذين يتسلطون على رقاب العباد و أموالهم , و يزعمون لأنفسهم حق السيادة عليهم , و حق التشريع لهم و الطاعة و الاتباع.
هذه العقيدة , و هذا الإيمان بالله – سبحانه – و بأنه هو وحده الإله الحق الذي ينبغي أن يعبد و يطاع و ان يكون له الأمر و النهي . لأنه وحده هو الخالق : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) [الأنعام 57] , (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [يوسف 40] , (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [الأعراف 54] و أن كل ما عداه من الآلهة التي يعلق الناس عليها آمالهم و يعكفون حولها , انما هو زيف و باطل , و أن الله – سبحانه و تعالى– هو مالك الملك المتصرف بكل شيء : (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [آل عمران 26] و أنه هو وحده القادر الرزاق المحيي المميت , مقدر الآجال , و إليه المرجع و المصير و أن ما عداه مما يدعو الناس من آلهة و ما يخافون في الأرض من دون الله إنما هم زيف و ضالا و غثاء (لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) [سبأ 22].
هذه العقيدة الواضحة الناصعة , تكشف الحقيقة و تزيل الغشاوة عن العيون , و تهتك الأقنعة التي يختبئ وراءها الطغاة , و تقوض عقائدهم و تزلزل عروشهم و تكشف زيفهم , فهي في خطر عظيم يهدد سيادتهم و يقلق أمنهم و راحتهم و يقلب الأوضاع التي تعارفوا عليها و القيم و التقاليد التي توارثوها عن آبائهم و أسلافهم جيلا بعد جيل , و تنزع منهم السلطان الذي يتسلطون به على رقاب العباد فيذلونهم و يحتقرونهم و يتسلطون بها على ارزاقهم و أموالهم , فيأكلونها بالباطل و الإثم و العدوان , هذه العقيدة تجعل الناس كلهم سواسية امام الله – تعالى– لا يتمايزون بالأنساب و لا يتخايلون بالألقاب , السادة و العبيد سواء , لا يتفاضلون إلا بالسبق و البلاء , فالكل خلقوا من أصل واحد يعبدون ربا واحدا : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً) [النساء 1] , (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات 13].
و بهذه العقيدة كذلك كان لابد لها من أعداء و هي سنة الله عز و جل في هذه الحياة, صراع بين الحق و الباطل, الاسلام و الكفر , الدين و العلمانية , الرسل و الملأ , و الملأ في كل زمان و مكان هم من يتولى كبر المقاومة الأثيمة لدعوة الرسل الكرام و أتباع الرسل العظام , قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) [سبأ 34].

من هم الملأ أعداء الرسل و أعداء المشروع الإسلامي؟؟
قال المفسرون : الملأ هم أشراف القوم و قادتهم و رؤسائهم و ساداتهم و أصحاب المال و الترف و الجاه , هم أعداء كل دعوة إصلاح و خير , هم فلول الأنظمة الجاهلية المستبدة في كل عصر , الملأ يقودون حملات الكذب و الافتراء و التضليل منذ الزمن القديم (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) الأعراف 59 – 60, ومن خلال تتبع آيات القرآن وقصص المرسلين نجد أن الوصف الغالب على هؤلاء القوم ( الملأ ) هو معاداتهم للدعوة وأصحابها، ومقاومتهم لانتشارها وتعذيبهم لأتباعها، وعادة ما يقودون حملات التكذيب والافتراء والتضليل ضد الأنبياء أو ورثتهم الدعاة إلى الله ، قال تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)(سـبأ:34، 35) .
فأعلنوا منذ اللحظة الأولى كفرهم، وأظهروا معاداتهم، ثم جاهروا بسب الأنبياء ووصفهم بما ليس فيهم تنفيرًا للناس منهم وصرفًا لهم عنهم ,فنوح عليه السلام : (قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(الأعراف:60) وهود عليه السلام لما أرسل إلى قوم عاد : (قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ)(الأعراف:66) .
وعلى هذا سار الملأ من قوم كل نبي في إيذاء الأنبياء والدعاة إلى الله : (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ)(الذاريات:52) . و كذلك كان موقف ملأ قريش من خاتم النبيين : (وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ) [ص 4 – 5 – 6 ] و عندما خرج إلى الطائف و اجتمع بنفر من سادة ثقيف و اشرافها ردوه بأقبح رد , و أغروا سفهاءهم و عبيدهم و صبيانهم يسبونه و يصيحون به و يرشقونه بالحجارة , و هكذا يفعل الملأ في كل زمان بتحريك و تحريش الشارع و تجييش الغوغاء.
و نحن نرى الملأ من القوم الذين ظلموا أنفسهم في مصر و الأردن و تونس و المغرب و كل الدول العربية والاسلامية  يعارضون حكم الشريعة و يرفضون حاكمية الإسلام و مرجعية الشريعة و يتصدرون بكل ما أوتوا من قوة لأي مشروع إسلامي و لو كان المشروع الإسلامي يتضمن موادا مخالفة لأصوله و أركانه ولكن لأن فيه لائحة الشريعة فهم يرفضون ذلك و يثيرون الفوضى و الفتن حتى لا يكون للإسلام أي وجود يرجع إليه و يحتكم إليه.
و من اسْتقراء التاريخ ظهر أنه ليس من السهل على الذين جعلوا أنفسهم طواغيت و مستبدين و آمرين و ناهين أن يلزموا الصمت أمام الحق و حملته و هو يهدد كيانهم و يقرع أجراس الخطر على أبوابهم و يرسل عاصفة على معاقلهم ليخلص الناس من استعبادهم و جبروتهم و يعيد للإنسان كرامته و حريته اللائقة به و لذلك فهم يلجاون لأساليب متعددة و طرق متنوعه لمحاربة الحق و المبشرين به.
والمتأمل في أسباب مخاصمة الملأ لرسلهم ورفضهم لدعوتهم يمكنه إرجاع ذلك إلى عدة أسباب أهمها :
أولاً : الكبر:وهو آفة مهلكة، وخُلقٌ ذميم، يقود صاحبه إلى رؤية النفس واحتقار الآخرين، فيمنع المتكبر عن معرفة الحق، أو عدم الانقياد له بعد معرفته، فهو من أهم أسباب الحجب عن الهداية وسلوك سبيلها، قال تعالى : (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ)(الأعراف:146) .
وفي الملأ من قوم نوح عليه السلام عبرة وعظة، فقد قالوا لنوح ٍعليه السلام لما دعاهم إلى الله : (مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ)(هود: من الآية27) ، وقالوا له : (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ)(الشعراء:111) .
وإنما حملهم على قول ما قالوه الكبر الذي ملأ قلوبهم، ومثلهم قوم فرعون الذي علا في الأرض وعتى حتى قال : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)(النازعـات:24) ، وتابعه قومه على كبره وعلوه فكان الكبر سبيلهم إلى الهلاك : (فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ * فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ * فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ)(المؤمنون:46 - 48) .
وقد عانت قريش من نفس المرض ، وشربت من هذا الورد ؛ فأعماهم الكبر عن رؤية نور الحق، فقالوا لداعي الإيمان صلوات الله وسلامه عليه : (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ)(ص:7) فصدهم الكبر كما صد من سبقهم عن معرفة الحق واتباعه، وحملهم على جحده وإنكاره، وصدق الله إذ يقول : (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وعُلُوّاً) (النمل:14) ، ويقول: (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)(الأنعام:33) .
ثانيًا : حب الرياسة والجاه:الملأ هم أهل السيادة والشرف، ولهم الملك على الناس، وهم بهذه السيادة وذاك الملك يجلبون المكانة لأنفسهم والرفعة ، فجلبت لهم الرياسة والملك مكانة في قلوب مرؤوسيهم تسلطوا بها على رقابهم، وصارت لهم بها وجاهة دنيوية وسلطان .
ومعلوم أن دعوات الحق لا تفرق بين الخلق على اختلاف طبقاتهم وأشكالهم وألوانهم إلا بالتقوى والعمل الصالح، فالناس سواسية إلا من رفعه دينه وقدمته تقواه، وهذا ما يرفضه ذوي السلطان الزائف والجاه ، أن يفقدوا سلطانهم ويذهب عنهم جاههم، فرفضوا لذلك دعوات المرسلين، وظنوا أنهم إنما أتوا ليسلبوهم ملكهم وجاههم ورئاستهم . فقال قوم نوحٍ عنه : (مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ)(المؤمنون:24) . وقال ملأ فرعون لموسى عليه السلام : (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ)(يونس:78) . وقالت عاد لنبيهم هود عليه السلام : (قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ)(هود:53) .
وبمثل ذلك قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم : (وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ)(ص:6) قال القرطبي : (إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ) : كلمة تحذير، أي إنما يريد محمد صلى الله عليه وسلم بما يقول الانقياد له ليعلو علينا ونكون له أتباعًا فيتحكم فينا بما يريد، فاحذروا أن تطيعوه . وقال ابن كثير عند هذه الآية : "قال ابن جرير : إن الملأ قالوا : إن هذا الذي يدعونا إليه محمد صلى الله عليه وسلم من التوحيد لشيء يريد به الشرف عليكم والاستعلاء، وأن يكون له منكم أتباعًا ولسنا نجيبه ". وهكذا كان حب الشرف والجاه سببًا في صد الملأ عن سبيل الله .
ثالثًا : الجهالة: رغم أن الظاهر في أمر الملأ أنهم أصحاب الوجاهة والعقل السليم والفكر السديد، ومنهم المفكرون والمنظرون والمبدعون، و .. و .. إلا أن الجهل كان من أهم سمات القوم وصفاتهم، حين عموا عن إدراك الحق الذي جاءت به الرسل فردوه، واستحسنوا الباطل فدافعوا عنه وقبلوه، فلم يقبلوا حجج المرسلين على كثرتها ووضوحها ( كناقة صالح، ونار إبراهيم، وعصا موسى، ومعجزات عيسى) ، ووصفوها بأنها " سحر مبين " أو " أساطير الأولين " ، وكذا حملهم الجهل على رد رسالات الرسل ودعوات الدعاة لبشريتهم : (وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ )(الأنعام:8) ، وقالوا : (لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ)(فصلت:14) وقالوا : (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ)(المؤمنون:24) . أو لأن أتباعهم من الضعفاء الفقراء ، كما قالوا لنوحٍ ولغيره، وزعموا لجهلهم أنهم أفضل عند الله لكثرة أموالهم ووفرة عددهم : (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)(سـبأ:35) .
رابعًا : التقليد :فقد كان تقليد الآباء - ومازال - سببًا من أكبر أسباب الضلال، وسبيلاً من سبل الصد عن اتباع الحق والرشاد، وقد عاش الملأ من أقوام المرسلين هذا الأمر فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين، أي بصَّرهم الله سبل الهدى فتركوها ، وسلكوا سبل الردى لا لشيء إلا أنها كانت منهج الآباء .
من لدن نوح وإبراهيم عليهما السلام وإلى نبينا خاتم النبيين عليه أفضل الصلاة والسلام، وحجة كل قوم في ترك الإيمان هي تقليد الأولين السابقين من الآباء والأجداد، وهل أهلك أبا طالب إلا التقليد . وكذا كل معاند كما قال تعالى : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)(البقرة:170) ، وقال تعالى : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)(المائدة:104) ، وقال تعالى : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ)(لقمان:21) .
وقد لخص الله كلامهم وجمع حجتهم في قوله : (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ  مُقْتَدُونَ)(الزخرف:23) .
و الملأ حينما يمتلكون القوة و النفوذ و يستقوون بأعداء الداخل و الخارج ( وسار معه النظام العربي وتحت مظلته في حربه على اهله تحت شعار مكافحة الارهاب ) يرهبون الناس : (فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) [يونس 83].
و الملأ يلوحون بالمال إلى الجمهور ان تابعوهم على باطلهم و رضوا بقيادتهم و نفذوا خططهم : (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ) الزخرف 51 و قال سبحانه : (قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا) نوح 21,والتآمر على الصالحين:التآمر على الصالحين و التخطيط لقتلهم و تصفيتهم جسديا , قال تعالى: (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) القصص 20.
- تأملوا في العاقبتين:عاقبة من اطاع الملأ : (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بعض الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا) سبأ 31  32  33.و عاقبة أهل الايمان و حملة الدين : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) القصص 5 – 6 و هذا وعد الله و الله لا يخلف الميعاد , المهم هو نحن أتباع الرسل ان نعبد الله و نحكم شرع الله و لا نشرك به و نكفر بالطواغيت و بالحكم العلماني و الليبرالي و الجاهلي , قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) النور 55.
إن تاريخ الحكومات المستبدة مع اهل الإسلام تاريخ قديم و حافل بكل انواع الصراع و الملاحقة و كيد , و لكن العجيب أن الأيام و المحن لا تزيد أهل الإسلام و دعاته إلا ثباتا و رسوخا و تجذرا و في كل يوم تمتد تلك الأغصان الكريمة و تتنامى بصورة مدهشة جدا.
لقد جن جنون الساسة و العلمانيين و فقدوا القدرة على التركيز و التفكير و ظنوا ان الحل الوحيد الذي يخرجهم من هذا المأزق هو العصا الغليظة التي تلهب الظهور و تدمي الجباه , و ظنوا ان الخيار الامثل هو بناء السجون و المعتقلات و مع ذلك كله لم يتوقف المد المبارك فالشارع الإسلامي على الرغم من سياسة التجهيل و إعلام المرتزقة و سماسرة الحماقة يزداد التفافا حول علماؤه و دعاته المخلصين.
إن ثمة حقيقة كبرى يغفل عنها أولئك الملأ الذين غرتهم عساكرهم و هي ان حربهم للدين و علماؤه و رجاله ليست حربا لأشخاص بأعينهم تنتهي قضيتهم بتصفيتهم او خنق أصواتهم و لكنها حربا مع السنة الكونية فالله عز و جل أنزل هذا الدين لكي يبقى إلى قيام الساعة قال تعالى (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) الصف 8–9
واما الملا الاعلى فعن ابن عباس في قوله تعالى {ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون} قال: الملأ الأعلى: الملائكة حين شووروا في خلق آدم, فاختصموا فيه, وقالوا: لا تجعل في الأرض خليفة ,عن السدي {بالملإ الأعلى إذ يختصمون} هو: {إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} البقرة: 30,وعن قتادة, قوله {ما كان لي من علم بالملإ الأعلى} قال: هم الملائكة, كانت خصومتهم في شأن آدم حين قال ربك للملائكة: {إني خالق بشرا من طين} وأما من السنة فقد جاء عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( في كلام الله له في المنام ) يَا مُحَمَّدُ هَلْ تَدْرِي فِيمَ يَخْتَصِمُ الْملأُ الأَعْلَى .. قَالَ فِي الْكَفَّارَاتِ ، وَالْكَفَّارَاتُ الْمُكْثُ فِي الْمَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ وَالْمَشْيُ عَلَى الأَقْدَامِ إِلَى الْجَمَاعَاتِ وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ فِي الْمَكَارِهِ وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَاشَ بِخَيْرٍ وَمَاتَ بِخَيْرٍ وَكَانَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ.الترمذي 3157 وهو في صحيح الجامع 59.
ان الملا اليوم وظيفتهم كما كانت بالامس الحفاظ على واقع الحكم ومحاربة كل من يريد التغيير فهم اليوم قواعد انظمة الحكم والمستفيدون من بقاءه واستمراره وهم في واقع حالهم يدافعون عن مصالحهم,والترويج الدعائي للحاكم بوصفهم جزء منه ولا ينفصل عنه,فهم اصحاب البضاعة الفاسدة يروجونها ويسوقونها ويشتريها الناس باغلى ما يملكون وهو دينهم.
واما القصة:فمما كتب في كتاب ابن عبدربه في العقد الفريد، أنّ رجلاً من بني كلاب خطب امرأة، فقالت أمها دعنى حتى أسأل عنك،فانصرف الرجل، فسأل عن أكرم الحى عليها، فدل على شيخ منهم كان يحسن التوسط فى الأمر، فأتاه يسأله أن يحسن عليه الثناء ( له حُسن المكافأة)، ثم إن العجوز غدت عليه، فسألته عن الرجل، فقال أنا أعرف الناس به!!، فقالت: فكيف لسانه؟، قال: مدرة قومه، وخطيبهم!، قالت، فكيف شجاعته؟، قال: منيع الجار حامي الذمار،قالت: فكيف حماسته؟ قال: ثمال قومه، وربيعهم، وأقبل الفتى، فقال الشيخ، ما أحسن، والله ما أقبل! ما انثنى،ولا انحنى!‏.‏ ودنا الفتى، فسلم، فقال الشيخ: ما أحسن، والله ما سلم! ما فار، ولا ثار! ثم جلس، فقال الشيخ‏:‏ ما أحسن والله ما جلس ما دنا!، ولا نأى‏!‏ ثم ذهب الفتى ليتحرك، فضرط، فقال الشيخ‏:‏ ما أحسن، والله ما ضرط!، ما أطنها!، ولا أغنها!، ولا بربرها!، ولا قرقرها!‏.‏ ونهض الفتى خجلاً، فقال‏:‏ ما أحسن، والله ما نهض! ما ارقد ولا اقطوطى‏! فقالت العجوز‏:‏ حسبك يا هذا وجه إليه من يرده، فوالله ولو سلح (تغوَّط) في ثيابه لزوجناه‏".
فهذاالشيخ بابسط العبارات يقوم باعمال الملا من اجل مصلحته ويحلف ان ما قام به الفتى(ما أحسن، والله ما ضرط)مع علمه الاكيد انه يجانب الحقيقة,فهو كالذي يقول بان فيفي عبده هي الام المثالية,وهو الذي يدعو الى محاربة الارهاب وجواز الاستعانة بالكافر ليس قناعة وانما اتباعا لهوى او مصلحة,ويزين كل ما يقوم به الحاكم.وصدق الشاعر:
وتهيج ان ضرط الزعيم ..........تقول موهوب يناور


جواد عبد المحسن
حديث رمضان 14
2016

إرسال تعليق

2 تعليقات