ولات حين مناص

ولات حين مناص

في قول الحق سنحانه وتعالى:( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)الفرقان, عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( ويوم يعض الظالم على يديه ) قال :ان عقبة بن أبي معيط دعا مجلسا فيهم النبي صلى الله عليه وسلم لطعام ، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يأكل وقال  " ولا آكل حتى تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله " ، فقال  ما أنت بآكل حتى أشهد؟ قال : " نعم " ، قال  أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . فلقيه أمية بن خلف فقال : صبوت؟ فقال : إن أخاك على ما تعلم ، ولكني صنعت طعاما فأبى أن يأكل حتى أقول ذلك ، فقلته ، وليس من نفسي .وعن الشعبي في قوله : ( ليتني لم أتخذ فلانا خليلا ) قال  كان عقبة بن أبي معيط خليلا لأمية بن خلف ، فأسلم عقبة ، فقال أمية : وجهي من وجهك حرام إن تابعت محمدا فكفر ; وهو الذي قال  ( ليتني لم أتخذ فلانا خليلا ).
{ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ }هذا التعبير يحتاج إلى تأمل هذا التعبير أسلوب بلاغي, وهو كناية عن شدة الندامة وفرط التحسر لم يقل القرآن  يعض أصابعه أويعض يده  بل قال ( يعض الظَّالِمُ عَلَى يديه ) إن الموقف الذي يعيشه هذا المجرم, قد أحدث هلعا عظيما في نفسه, فهو يعيش وسط مشهد مهيب, فتتملكه مشاعر نفسية موغلة في الاضطراب, وهو لهول ما يرى ويشاهد, بات لا يشعر بما يعمل, فهو قد عض يديه معا لهول ما يرى .
كذلك فإن القرآن الكريم استخدم الفعل المضارع ( يعض ) الذي يفيد التجدد والتكرار, فهو لم يعض يديه مرة واحدة فقط, بل يتكرر منه العض ليديه ويتجدد وهو ينسى الألم من العض بسسب ما يرى من أهوال يوم القيامة, فمعروف أن العض يحجب ألما, لكن هؤلاء العصاة المجرمين لا يشعرون بهذا الالم, لأن الهول العظيم الذي يعيشونه داخل أنفسهم من مشاهد يوم القيامة, قد انساهم شعورهم بالألم.
{ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ }ندما على ما فاته من خير كان يعلمه ثم انقلب فلا يستطيع تعويضه او استدراكه,والمشهد الاول بمكة فقد كان فيها سيدا مطاعا عاقلا مالكا لارادته بالقيام بالفعل او بالترك,آمن بالله فغضب خليله...فمال مع هواه فكفر,واما المشهد الثاني يوم بدر....اسر عقبة واصبح اسيرا حقيرا مكبلا لا يملك ارادته لا في الفعل ولا في الترك فقدم ليقتل فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ....ااقتل دونهم فقال نعم بكفرك فقال من للصبية قال النار.
   ان الندم على ما فات ان كان يستدرك فهو ندم توبة نصوح كما اخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث(الندم توبة)المستدرك.وان فات الاوان وغرغر...فلا معنى للندم بل اعتراف من الظالم بظلمه,فهذا فرعون ما آمن عندما كان في قوته وجبروته ولكن(حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)يونس فجاءه الجواب من الله عز وجل(آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)يونسفعض يديه لا يفيده الا حسرة على حسرة لاجل طاعته هواه ورفيق السوء ومتابعته, وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ  قَالَ : قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ جُلَسَائِنَا خَيْرٌ ؟ قَالَ : " مَنْ ذَكَّرَكُمْ بِاللَّهِ رُؤْيتَهُ  وَزَادَ فِي عِلْمِكُمْ مَنْطِقَه وَذَكَّرَكُمْ بِالآخِرَةِ عَمَلُهُ " شعب الايمان للبيهقي,وصدق الله العظيم(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)النساء.
واما القصة: ففي خلافة عمر رضي الله عنه وأرضاه، جاءه إلى المدينة جبلة بن الأيهم آخر ملوك الغساسنة يعلن إسلامه، فرَحَّب به عمر أشد الترحيب، وفي أثناء طواف هذا الملك حول الكعبة داس بدوي طرف إزار الملك الغساني، فيغضب الملك ويلتفت إلى هذا البدوي فيضربه ويهشم أنفه، فما كان من هذا البدوي من فزاره إلا أن توجه إلى الخليفة الراشد عمر بن الخطاب شاكياً، فيستدعي عمر رضي الله عنه الملك الغساني إلى مجلسه ويجري بينهما حوار صيغ على الشكل التالي: " قال عمر: جاءني هذا الصباح، مشهد يبعث في النفس المرارة، بدويٌّ من فزارة، بدماء تتظلَّم بجراح تتكلَّم، مقلة غارت وأنف قد تهشم، وسألناه فألقى فادِحَ الوزر عليك، بيديك، أصحيح ما ادَّعى هذا الفزاري الجريح ؟ قال جبلة: لست ممن ينكر، أو يكتم شيئاً، أنا أدَّبتُ الفتى، أدركتُ حقي بيدي، قال عمر: أيُّ حقٍّ يا ابن أيهم، عند غيري يقهر المستضعف العافي ويظلم، عند غيري جبهة بالإثم والباطل تُلطَم، نزوات الجاهلية، ورياح العنجهية، قد دفناها وأقمنا فوقها صرحاً جديداً، وتساوى الناس أحراراً لدينا وعبيداً، أرض الفتى، لابد من إرضائه مازال ظفرك عالقاً بدمائه، أو يهشمن الآن أنفك، وتنال ما فعلته كفك، قال جبلة: كيف ذاك يا أمير المؤمنين، هو سوقة وأنا صاحب تاج، كيف ترضى أن يخر النجم أرضاً، كان وهماً ما مشى في خلدي، أنني عندك أقوى وأعز، أنا مرتد إذا أكرهتني . قال عمر: عالم نبنيه، كل صدع فيه بشبا السيف عندك أقوى وأعز، أنا مرتد إذا أكرهتني . قال عمر: عالم نبنيه، كل صدع فيه بشبا السيف يداوى، وأعز الناس بالعبد بالصعلوك تساوى " .
فقال جبلة : أخّرني إلى غدٍ ياامير المؤمنين . قال : لك ذلك ، ولما كان الليل خرج جبلة وأصحابه من مكة ، وسار إلى القسطنطينية فتنصّر... ، ثم ثم إن عمر رضي الله عنه بدا له أن يكتب إلى هرقل يدعوه إلى الله جل وعز إلى الإسلام، ووجه إليه رجلاً من أصحابه، وهو جثامة بن مساحق الكناني، فلما انتهى إليه الرجل بكتاب عمر أجاب إلى كل شيء سوى الإسلام فلما أراد الرسول الانصراف قال له هرقل: هل رأيت ابن عمك هذا الذي جاءنا راغباً في ديننا؟ قال: لا. قال: فالقه. قال الرجل: فتوجهت إليه فلما انتهيت إلى بابه رأيت من البهجة والحسن والسرور ما لم أر بباب هرقل مثله، فلما أدخلت عليه إذا هو في بهو عظيم، وفيه من التصاوير مالا أحسن وصفه، وإذا هو جالس على سرير من قوارير، قوائمه أربعة أسد من ذهب، وإذا هو رجل أصهب سبال وعثنو ن يخالط بياضَه حُمرة،وطويل الشعر ، وقد امر بمجلسه فاستقبل به وجه الشمس، فما بين يديه من آنية الذهب والفضة يلوح، فما رأيت أحسن منه. فلما سلمت رد السلام ورحب بي، وألطفني ولامني على تركي النزول عنده، ثم أقعدني على شيء لم أثبته، فإذا هو كرسي من ذهب، فانجدرت عنه فقال: مالك؟ فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا. فقال جبلة أيضا مثل قولي في النبي صلى الله عليه وسلم حين ذكرته، وصلى عليه. ثم قال: يا هذا إنك إذا طهرت قلبك لم يضرك ما لبسته ولا ماجلست عليه. ثم سألني عن الناس وألحف في السؤال عن عمر، ثم جعل يفكر حتى رأيت الحزن في وجهه، فقلت: ما يمنعك من الرجوع إلى قومك والإسلام؟ قال: أبعد الذي قد كان؟ قلت: قد ارتد الأشعث بن قيس, ومنعهم الزكاة وضربهم بالسيف ثم رجع إلى الإسلام. فتحدثنا مليا ثم أومأ إلى غلام على رأسه فولي يحضر، فما كان إلا هنيهة حتى أقبلت الأخونة يحملها الرجال فوضعت، وجيء بخوان من ذهب فوضع أمامي فاستعفيت منه، فوضع أمامي خوان خلنج وجامات قوارير ، وأديرت الخمر فاستعفيت منها، فلما فرغنا دعا بكأس من ذهب فشرب به خمساً عدداً. ثم أومأ إلى غلام فولي يحضر، فما شعرت إلا بعشر جوار يتكسرن في الحلي، فقعد خمس عن يمينه وخمس عن شماله، ثم سمعت وسوسة من ورائي، فإذا أنا بعشر أفضل من الأول عليهن الوشي والحلي، فقعد خمس عن يمينه وخمس عن شماله، وأقبلت جارية على رأسها طائر أبيض كأنه لؤلؤة، مؤدب، وفي يدها اليمنى جام فيه مسك وعنبر قد خلطا وانعم سحقهما، وفي اليسرى جام فيه ماء ورد، فألقت الطائر في ماء الورد، فتمعك بين جناحيه وظهر بطنه ، ثم اخرجته فألقته في جام المسك والعنبر، فتمعك فيها حتى لم يدع فيها شيئاً، ثم نفرته فطار فسقط على تاج جبلة، ثم رفرف ونفض ريشه فما بقي عليه شيء إلا سقط على رأس جبلة، ثم قال للجواري: أطربنني. فخفقن بعيدانهن يغنين:
الله در عصابة نادمـتـهـا      يوماً بجلق في الزمان الأول
بيض الوجوه كريمة أحسابهم      شم النوف من الطراز الول 
يغشون حتى ما تهر كلابهـم        لايسألون عن السواد المقبـل
فاستهل واستبشر وطرب ثم قال: زدنني. فاندفعن يغنين:
لمـن الـدار أقـفـرت بـمـعان     بين شـاطـي الـيرمـوك فـالصمـان
فقال: أتعرف هذه المنازل؟ قلت: لا. قال: هذه منازلنا في ملكنا بأكتاف دمشق، وهذا شعر ابن الفريعة حسان بن ثابت، شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت: أما إنه مضرور البصر كبير السن. قال: يا جارية هاتي. فأتته بخمسمائة دينار وخمسة أثواب من الديباج، فقال: ادفع هذا إلى حسان وأقرئه مني السلام.
ثم أرادني على مثلها، فأبيت فبكى، ثم قال لجواريه: أبكينني. فوضعن عيدانهن وأنشأن يقلن:
تنصرت الأشراف من عار لـطـمة     وما كان فيها لو صبرت لها ضـرر
تكفنـي فـيهـا لـجـاج ونـخـوة            وبعت بها العين الصحيحة بالعـور
فيا ليت أمي لم تلـدنـي ولـيتـنـي       رجعت إلى القول الذي قال لي عمر
وياليتني أرعى المخاض بـقـفـرة          وكنت أسيراً في ربيعة أو مضـر
وياليت لي بالشأم أدنـى مـعـيشة         أجالس قومي ذاهب السمع والبصر
ثم بكى وبكيت معه حتى رأيت دموعه تجول على لحيته ، ثم سلمت عليه وانصرفت، فلما قدمت على عمر سألني عن هرقل وجبلة، فقصصت عليه القصة من أولها غلى آخرها، فقال: أو رأيت جبلة يشرب الخمر؟ قلت: نعم. قال: أبعده الله، تعجل فانية اشتراها باقية، فما ربحت تجارته، فهل سرح معك شيئاً؟ قلت: سرح إلى حسان خمسمائة دينار وخمسة أثواب ديباج. فقال: هاتها. وبعث إلى حسان فأقبل يقوده قائده حتى دنا فسلم، وقال: يا أمير المؤمنين، إني لأجد لأرواح آل جفنة. فقال عمر رضي الله عنه: قد نزع الله تبارك وتعالى لك منه على رغم أنفه، وأتاك بمعونة.



جواد عبد المحسن
حديث رمضان 14
2016

إرسال تعليق

0 تعليقات