نسوا الله فأنساهم أنفسهم

نسوا الله فأنساهم أنفسهم

النِّسيان: ضدُّ الذِّكْر والحِفظ، والنِّسيانُ: الترك. والنسيان: ترك الإنسان ضبط ما استودع إما لضعف قلبه، وإما عن غفلة، وإما عن قصد حتى ينحذف عن القلب ذكره. "المفردات في غريب القرآن".
وللنِّسيان صور منها:
أولاً: نسيان النفس: قال تعالى: "وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ " [الحشر/19]. فعاقب سبحانه من نَسِيَهُ عقوبتين؛ إحداهما: أنه نَسِيَهُ، والثانية: أنه أنساه نفسه. قوله تعالى"ولا تكونوا كالذين نسوا الله" أي: تركوا أمره "فأنساهم أنفسهم" أن يعلموا لها خيراً. قاله بن حبان، وقيل: نسوا حق الله فأنساهم حق أنفسهم. قاله سفيان، وقيل: "نسوا الله " بترك شكره وتعظيمه " فأنساهم أنفسهم " بالعذاب أن يذكر بعضهم بعضا حكاه بن عيسى، وقال سهل بن عبد الله : " نسوا الله " عند الذنوب " فأنساهم أنفسهم " عند التوبة. ونسب تعالى الفعل إلى نفسه في " أنساهم " إذ كان ذلك بسبب أمره ونهيه الذي تركوه. وقيل: معناه: وجدهم تاركين أمره ونهيه كقولك " أحمدت الرجل إذا وجدته محمودا "، وقيل "نسوا الله" في الرخاء " فأنساهم أنفسهم " في الشدائد . " تفسير القرطبي ".
ثانياً: نسيانُ اللهِ قال تعالى: "الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ المُنَافِقِينَ هُمُ الفَاسِقُونَ " [التوبة/67]. "نسوا الله" فلا يذكرونه إلا قليلاً "فنسيهم" من رحمته فلا يوفقهم لخير، ولا يدخلهم الجنة بل يتركهم في الدرك الأسفل من النار خالدين فيها مخلدين .  " تفسير السعدي " (ص343). وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: "نسوا الله" أي: نسوا ذكر الله "فنسيهم" أي: عاملهم معاملة من نسيهم كقوله تعالى "فاليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا" تفسير ابن كثير".
ثالثاً: نسيان عهد الله قال تعالى: "فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ " [المائدة/13]. "ونسوا حظا مما ذكروا به " أي: نسوا عهد الله الذي أخذه الأنبياء عليهم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبيان نعمته. (تفسير القرطبي). قال الشيخ السعدي رحمه الله: " أنهم "نسوا حظا مما ذكروا به" فإنهم ذكروا بالتوراة وبما أنزل الله على موسى فنسوا حظا منه، وهذا شامل لنسيان علمه، وأنهم نسوه، وضاع عنهم، ولم يوجد كثير مما أنساهم الله إياه عقوبة منه لهم، وشامل لنسيان العمل الذي هو الترك فلم يوفقوا للقيام بما أمروا به (تفسير السعدي).
رابعاً: نسيان اليوم الآخر قال تعالى: "الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ " [الأعراف/51]، وقال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ" [ص/26]، وقال تعالى: "فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" [السجدة/14]، وقال تعالى: "وَقِيلَ اليَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ" [الجاثية/34]. قال الإمام الطبري رحمه الله: "أي: ففي هذا اليوم وذلك يوم القيامة، ننساهم، يقول: نتركهم في العذاب المبين جياعاً عطاشاً بغير طعام ولا شراب كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا ورفضوا الاستعداد له بإتعاب أبدانهم في طاعة الله" (تفسير الطبري).
خامساً: نسيان آيات الله قال تعالى: "قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى" [طه/126]. أي: لما أعرضت عن آيات الله وعاملتها معاملة من لم يذكرها بعد بلاغها إليك تناسيتها وأعرضت عنها وأغفلتها كذلك اليوم نعاملك معاملة من نسيك " فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا " فإن الجزاء من جنس العمل، فأما نسيان لفظ القرآن مع فهم معناه والقيام بمقتضاه فليس داخلاً في هذا الوعيد الخاص وإن كان متوعداً عليه من جهة أخرى؛ فإنه قد وردت السنة بالنهي الأكيد والوعيد الشديد في ذلك. (تفسير ابن كثير).
قال تعالى: {ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون}، قال سفيان: نسوا حق الله فأنساهم حق أنفسهم، وقيل: نسوا الله في الرخاء فأنساهم أنفسهم في الشدائد، وقيل: تركوا طاعته فأنساهم أنفسهم أن يقدموا لها خيراً. وقال الإمام القرطبي: أي تركوا أمره فأنساهم أنفسهم أن يعملوا لها خيراً، وقال سهل بن عبد الله: نسوا الله عند الذنوب فأنساهم أنفسهم عند التوبه. ونسب تعالى الفعل إلى نفسه في "أنساهم" إذ كان ذلك بسبب أمره ونهيه الذي تركوه. وقيل: نسوا الله بترك شكره وتعظيمه فأنساهم أنفسهم بالعذاب أن يذكر بعضهم بعضاً، حكاه ابن عيسى. وهنا مربط الفرس وبيت القصيد، لماذا لم يعد بعض المسلمين يذكر البعض الآخر؟ ولماذا يعاني بعضهم من الويلات الشديدة، وتعصف بهم المذابح الرهيبة ولا يتألم البعض الآخر بل لا يكاد يحس بها؟ وهل يتصور أن يفتك العدو ببعض المسلمين ونرى البعض الآخر لا يحرك ساكناً؟ والأنكى من ذلك أن البعض الآخر هذا لا يعرف ماذا يحصل للبعض الأول، بل لا يعرف عنه شيئاً، وأكثر من ذلك فإنه يغلط في أبجديات الأخوة الإسلامية، بل إنه يهرف بما لا يعرف، ويتلفظ بألفاظ لا تمت بصلة لموضوع السؤال. وإليكم البيان: قام أحد مراسلي محطة فضائية واسعة الانتشار بالتجول مؤخراً في أحد شوارع المسلمين، وسأل عينةً عشوائية من الشباب المسلم عن أنديجان، فكانت الإجابات مخيبة للآمال، وتعكس حالة من الجهل المطبق عند شباب المسلمين على كثير من قضايا الأمة الساخنة في زماننا. حيث قال كثير منهم: لا نعرف ما هي أنديجان، ولا أين تقع، وقال آخرون: إنه فريق كرة قدم أوروبي، وقال آخرون: إنه اسم لأغنية أو مسرحية أو ممثلة، ولربما قال البعض إنه حيوان بحري غريب، أو أكلة شعبية من مشتقات الباذنجان، أو مرض خبيث يصيب المسلمين المهتمين بقضايا الأمة....
ما هذا النسيان لبعضنا البعض؟ ألسنا بالمؤمنين الذين قال الله فيهم {إنما المؤمنون إخوة}؟ ألسنا من وصفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى؟ لماذا لا يهتم البعض منا بشؤون البعض الآخر؟ وما هو الجواب على كل هذه الأسئلة؟ فإن لم يوجد جواب بعد فلا بد لنا من البحث عنه مهما كلف الأمر.
إن الجواب بسيط جداً، فأجزاء الجسد الإسلامي مقطعة بفعل الكيانات التي أقامها الكفار في بلاد المسلمين لمنع التواصل بينها، فكيف يحس العضو المبتور من الجسد بما يحصل للعضو الآخر؟ وهذه قضية عضوية، فإن لم تكن عضوية فهي "ميكانيكية" إن صح التعبير، فكيف لقطعة غير مثبتة في موقعها من الجهاز أو "الموتور" أن تؤدي دورها؟ فليس غريباً بعد ذلك أن يشكل السودان حكومة بعد قتل مليونين من أهله فيما عرف بالحرب الأهلية، ثم يقفز حاكمه فوق كل تلك الجثث والجماجم ليشكل حكومة تضم أعداء الأمس وخصوم الأمة والمتمردين على الحكومة المركزية فيصير زعيم المتمردين من البطانة، ويصبح الناطق الرسمي باسمها وزير خارجية كافر.
إن هناك قضية خطيرة لا بد من التنبيه عليها في هذا السياق الخطير، فالقضية متعلقة ببقاء الأمة أو هلاكها، والتحذير من الله شديد بأن لا ننساه فينسينا أنفسنا، وإذا نسينا أنفسنا فقدنا اتصال بعضنا ببعض على أساس العقيدة والشريعة، وإذا فقدنا هذا الاتصال تمكن العدو منا، واخترق الذئب المتربص صفوفنا، ودمرنا وأهلك حرثنا ونسلنا. تلكم القضية الخطيرة هي الإعلام ودوره في تخريب العقول وإفساد الأذواق وتفتيت وحدة الأمة وتفريق جماعتهم ومنع رجوعهم إلى دينهم. فلو سألتم أحداً من أولئك الشباب الذين سُئلوا عن أنديجان فلم يعرفها، لو سُئلوا عن ممثلة سينمائية ساقطة أو لاعب كرة قدم عقله في قدميه، فهل كان سيتردد أحدهم لحظة واحدة قبل الإجابة الصحيحة؟ كلا، فعقله محشوٌّ بالمعلومات عن أمثال هؤلاء، ونفسه مثقلة بالبرامج واللقاءات والعروض المتكررة عنهم، والإعلام يذكرهم أكثر من ذكره لله ورسوله والصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان فلو سألتهم عن رجل من أهل بيعة العقبة الثانية واسمه العباس بن عبادة بن نضلة لم يعرفه أحد، ولو سألتهم عن ممثل مشهور تدافعت الإجابات لتعطي اسم ذلك الممثل وأشهر أفلامه ومعلومات أخرى عنه وعن أقرانه من الممثلين والممثلات الأحياء منهم والأموات.



إرسال تعليق

0 تعليقات