بعضنا لبعض فتنة


بعضنا لبعض فتنة

قال تعالى: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} [الفرقان:20].

{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً}: ومعنى هذا: "إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ بَلَاءٍ وَامْتِحَانٍ، فَأَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَجْعَلَ بَعْضَ الْعَبِيدِ فِتْنَةً لِبَعْضٍ عَلَى الْعُمُومِ فِي جَمِيعِ النَّاسِ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، فَالصَّحِيحُ فِتْنَةٌ لِلْمَرِيضِ، وَالْغَنِيُّ فِتْنَةٌ لِلْفَقِيرِ، وَالْفَقِيرُ الصَّابِرُ فِتْنَةٌ لِلْغَنِيِّ. وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُخْتَبَرٌ بِصَاحِبِهِ، فَالْغَنِيُّ مُمْتَحَنٌ بِالْفَقِيرِ، عَلَيْهِ أَنْ يُوَاسِيَهُ وَلَا يَسْخَرَ مِنْهُ. وَالْفَقِيرُ مُمْتَحَنٌ بِالْغَنِيِّ، عَلَيْهِ أَلَّا يَحْسُدَهُ. وَلَا يَأْخُذَ مِنْهُ إِلَّا مَا أَعْطَاهُ، وَأَنْ يَصْبِرَ كُلُّ واحد منها عَلَى الْحَقِّ، كَمَا قَالَ الضَّحَّاكُ فِي مَعْنَى "أَتَصْبِرُونَ": أَيْ عَلَى الْحَقِّ. وَأَصْحَابُ الْبَلَايَا يَقُولُونَ: لِمَ لَمْ نُعَافَ؟ وَالْأَعْمَى يَقُولُ: لِمَ لَمْ أُجْعَلْ كَالْبَصِيرِ؟ وَهَكَذَا صَاحِبُ كُلِّ آفَةٍ. وَالرَّسُولُ الْمَخْصُوصُ بِكَرَامَةِ النُّبُوَّةِ فِتْنَةٌ لِأَشْرَافِ النَّاسِ مِنَ الْكُفَّارِ فِي عَصْرِهِ. وَكَذَلِكَ الْعُلَمَاءُ وَحُكَّامُ الْعَدْلِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ: "لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. فَالْفِتْنَةُ أن يحسد المبتلى المعافى. والصبر: أن يحبس كلاهما نفسه، هدا عَنِ الْبَطَرِ، وَذَاكَ عَنِ الضَّجَرِ" (تفسير القرطبي: [13/18]).

فأن قوله تعالى: {فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [الأنعام من الآية 53]. فيه فتنة أغنياء الكفار بفقراء المسلمين، حيث احتقروهم وازدروهم، وأنكروا أن يكون الله قد منّ عليهم دونهم لأنهم في زعمهم لفقرهم، ورثاثة حالهم، لا يمكن أن يرحمهم الله ويعطيهم من فضله الواسع كما قال تعالى عنهم إنهم قالوا فيهم: {لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف من الآية:11]، وقال: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} [ص من الآية:8]، إلى غير ذلك من الآيات، وسيُوبخهم الله يوم القيامة على احتقارهم لهم في الدنيا كما قال تعالى: {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الأعراف:49]، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ....} [المطففين:29-30]، إلى قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:34-36]، وقوله تعالى: {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة من الآية:212]، وقوله تعالى: {أَتَصْبِرُونَ}، أي: على الحق أم لا تصبرون. (أضواء البيان: [6/36]).

{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} أي هذه سُنّتنا في خلقنا نبتلي بعضهم ببعض، فنبتلي المؤمن بالكافر والغني بالفقير والصحيح بالمريض والشريف بالوضيع، وننظر من يصبر ومن يجزع ونجزي الصابرين بما يستحقون والجزعين كذلك.

وقوله تعالى: {أَتَصْبِرُونَ} هذا الاستفهام معناه الأمر، أي اصبروا إذاً ولا تجزعوا أيها المؤمنون من أذى المشركين والكافرين لكم.

وقوله تعالى: {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} أي وكان ربك أيها الرسول بصيراً بمن يصبر وبمن يجزع، فاصبر ولا تجزع فإنها دار الفتنة والامتحان وإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب" (أيسر التفاسير للجزائري: [3/81]).

وقال الزمخشري: {فِتْنَةً} أي محنة وبلاء، وهذا تصبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قالوه واستبعدوه من أكله الطعام ومشيه في الأسواق بعدما احتج عليهم بسائر الرسل، والمعنى أنه ابتلى المرسلين بالمرسل إليهم ومناصبتهم لهم العداوة وأقاويلهم الخارجة عن حد الإنصاف وأنواع أذاهم، وطلب منهم الصبر الجميل ونحوه {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} [آل عمران من الآية:186]، وموقع {أَتَصْبِرُونَ} بعد ذكر الفتنة موقع {أَيُّكُمْ} بعد الابتلاء في قوله {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود من الآية:7]، {بَصِيراً} عالماً بالصواب فيما يبتلى به وبغيره فلا يضيقن صدرك ولا تستخفنك أقاويلهم فإن في صبرك عليهم سعادة، وفوزك في الدارين.

"وقيل: هو تسلية عما عيروه به من الفقر حين قالوا {أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ} [الفرقان: 8]، وأنه جعل الأغنياء فتنة للفقراء لينظر هل تصبرون وأنها حكمته ومشيئته يغني من يشاء ويفقر من يشاء. وقيل: جعلنا فتنة لهم لأنك لو كنت غنياً صاحب كنوز وجنات لكان ميلهم إليك وطاعتهم لك للدنيا أو ممزوجة بالدنيا، وإنما بعثناك فقيراً لتكون طاعة من يُطيعك منهم خالصة لوجه الله من غير طمع دنيوي. وقال النسفي: "أتصبرون على هذه الفتنة فتؤجروا، أم لا تصبرون فيزداد غمّكم؟" حكي أن بعض الصالحين تبرّم بضنك عيشه، فخرج ضجِراً، فرأى خصياً في مواكب ومراكب، فخطر بباله شيء، فإذا بقارئ يقرأ هذه الآية، فقال: "بل نصبر، ربّنا".

قال القشيري: "هو استفهام بمعنى الأمر، فمن قارنه التوفيقُ صبر وشكر، ومن قارنه الخذلان أبى وكفر". وقيل: "هو الأمر بالإعراض عما جعل في نظره فتنة، كما قال: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} [طه من الآية:131]، فينبغي ألا ينظر بعض إلى بعض، إلا لمن دونه، كما ورد في الخبر" (البحر المديد: [4/284]).

{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} فأيّ بعض فتنة لأيِّ بعض؟ كما في قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف من الآية:32] أيُّ بعض مرفوع، وأيّ بعض مرفوع عليه؟ويلاحظ في مثل هذه المسائل أن الناس لا تنظر إلا إلى زاوية واحدة: أن هذا غنيٌّ وهذا فقير، لكنهم لو أخذوا في المفاضلة بكل جوانب النفس الإنسانية لوجدوا أن في كل إنسان موهبةً خَصّه الله بها، فكلٌّ مِنّا عنده مَيْزةٌ ليست عند أخيه؛ ذلك ليتكاتف الناس ويتكامل الخَلْق؛ لأن العالم لو كان نسخة واحدة مكررة ما احتاجَ أحدٌ لأحد، وما سأل أحد عن أحد، أمّا حين تتعدد المواهب فيكون عندك ما ليس عندي، فيترابط المجتمع ترابط الحاجة لا ترابط التفضل. ولو تصورنا الناس جميعاً تخرجوا في الجامعة وأصبحوا (دكاترة) فمَنْ يكنس الشارع؟ ساعتها سيتطوّع أحدنا يوماً لهذه المهمة، إذن: تُصبح الحاجة بنت تطوُّع وتفضُّل، والتفضُّل لا يُلزِم أحداً بعمل، فقد تتعطل المصالح. أمّا حين تدعوك الحاجة فأنت الذي تُسرِع إلى العمل وتبحث عنه. أَلاَ ترى أصحاب المهن الشاقة يخرجون في الصباح يبحثون عن عمل، ويغضب الواحد منهم إذا لم يجد فرصة عمل في يومه مع ما سيتحمله من آلام ومشاق، لماذا؟ إنها الحاجة. فالعامل الذي يعمل في المجاري مثلاً ويتحمَّل أذاها هو في قدرته على نفسه ورضاه بقدَر الله فيه أفضل مِنِّي أنا في هذه المسألة، لأنني لا أقدر على هذا العمل وهو يقدر، ولو ترك الله مثل هذه الأعمال للتفضّل ما أقدم عليها أحد، إذن: التسخيرات من الحق سبحانه وتعالى لحكمة. ومثل هذه الأعمال الشاقة أو التي تؤذي العامل يعدُّها البعض أعمالاً حقيرة، وهذا خطأ، فأيُّ عمل يُصلِح المجتمع لا يُعَدُّ حقيراً، فلا يوجد عمل حقير أبداً، وإنما يوجد عامل حقير.

فمعنى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً}، كل بعض منا فتنة للآخر، فالغنيُّ فتنةٌ للفقير، والفقير فتنة للغني.. الخ فحين يتعالى الغني على الفقير ويستذلّه فالفقير هنا فتنة للغني، وحين يحقد الفقير على الغني ويحسده، فالغنيّ هنا فتنة للفقر، وهكذا الصحيح فتنة للمريض، والرسل فتنة لمن كذّبوهم، والكفار فتنة للرسل.

والناس يفرّون من الفتنة في ذاتها، وهذا لا يصح؛ لأن الفتنة تعني الاختبار، فالذي ينبغي أن نفرَّ منه نتيجة الفتنة، لا الفتنة ذاتها، فالامتحان فتنة للطلاب، مَنْ ينجح فالفتنة له خَيْر ومَنْ يخفق فالفتنة في حَقِّه شَرٌّ. إذن: الفتنة في ذاتها غير مذمومة. لذلك تُؤخَذ الفتنة من فتنة الذهب حين يُصْهر، ومعلوم أن الذهَب أفضل المعادن، وإنْ وُجد ما هو أنفس منه، لماذا؟ لأن من مَيْزاته أنه لا يتأكسد ولا يتفاعل مع غيره، وهو كذلك سهل السَّبْك؛ لذلك يقولون: المعدن النفيس كالأخيار بَطيءٌ كَسْره، سريع جَبْره. فمثلاً حين يتكسر الذهب يسهل إعادته وتصنيعه على خلاف الزجاج مثلاً.

إذن: الفتنة اختبار، والماهر مَنْ يفوز فيه، فإنْ كان غنياً كان شاكراً مُؤدِّياً لحقِّ الغني مُتواضعاً يبحث عن الفقراء ويعطف عليهم، والفقير هو العاجز عن الكسب، لا الفقير الذي احترف البلطجة وأَكْل أموال الناس بالباطل. ولما كانت الفتنة تقتضي صَبْراً من المفتون، قال سبحانه: {أَتَصْبِرُونَ} فكل فتنة تحتاج إلى صبر، فهل تصبرون عليها؟

ولأهمية الصبر يقول تعالى في سورة العصر: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1-2] يعني: مُطلَق الإنسان في خُسْر لا ينجيه منه إلاّ أنْ يتصف بهذه الصفات: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر:3].

وتُختم الآية بقوله سبحانه: {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} ليُنبهنا الحق سبحانه أن كل حركة من حركاتكم في الفتنة مُبْصَرة لنا، وبصرنا للأعمال ليس لمجرد العلم، إنما لنُرتِّب على الأعمال جزاءً على وَفْقها" (خواطر الشعراوي: [1/6410]). ورحم الله الشافعي:

رام نفعاً فضر من غير قصدً       ومن البر ما يكون عقوقاً

حديث رمضان 15
جواد عبد المحسن



إرسال تعليق

0 تعليقات