نقض العهد


نقض العهد

لقد خلق الله - تعالى - الإنسان، وجعل فيه القُدرة على الضدَّين، ووضَع فيه الإرادة والاختِيار، ورزَقَه العقل والإدْراك، وأضاء له السَّبيل بنور الوحْي، ودلالة الرَّسول، وهدي النبوة، وتجارب السَّابقين، ومقامات العارفين والعاملين من المؤمنين الصَّالحين، وضرب له الأمثال، وبيَّن له ما يلحق المعْرِض من الخِزْي والوبال، وأنَّه مُقتفَى الأثر مُدرَك في وقته المؤجل ولو ظنَّ أنَّ ما له من زوال.
وحثَّ الله - تعالى - في كتابه، ورسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم - في سنَّته على كريم الخصال وتمثَّل بها علمًا وعملًا، وكانت حياته - صلى الله عليه وسلم - وحياة أصحابه - رضْوان الله تعالى عليهم - مثالاً حيًّا لامتثال أمر الله وأمر رسوله، والتحلّي بالصفات الحسنة، والتربية بالشيم الكريمة.
لأجل ما سبق من مقوّمات الصَّلاح والاستقامة، كان من المذْموم أن يقع اختيار الإنسان الذي أرسل الله - تعالى - إليه رسولاً، وأنزل عليه الكتُب، ورزقه الفهم والإدْراك والتَّمييز، كان من القبيح أن يصدر منه خلق ذميم يضر به في دنياه وأُخراه، ويلحق الضَّرر أيضًا بِمن حوله من أفراد المجتمع الَّذي يعيش فيه، ويَجعله قدوةً سيِّئة ومثالاً يقتدى به في الشَّرّ، فضلاً عن أنَّ سلوك السَّبيل الذَّميم رفضٌ عملي للهُدى ودلالة الرِّسالة ونور الوحْي، وما العمل الظَّاهري إلاَّ انعكاس للحال الباطني؛ مصداقًا لما روى النّعمان بن بشير - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: ((أَلا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً، إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ))؛ مسلم (1599).
فمِن هذه الخصال الخبيثة الإبليسيَّة الَّتي تلحق الضَّرر بالإنسان، وتهيِّئ له سبيل الخسران الدُّنيوي والأخروي: خصلةٌ قد ذمَّها الله - تعالى - في كتابه، وقبَّح وصفَها رسولُه - صلى الله عليه وسلم - في سنَّته، خصلة لا يقول عاقل بِحُسنها، بل بزيْفِها وسوئها وخطرِها على الحياة والكون والوجود، ألا وهي نقْض العهد.
تلك الصّفة الَّتي تنمّ وتُفصح عن باطنٍ مريضٍ، وقلب سقيم، وعقْل عليل، وقلَّة ورع ودِين، وذاتيَّة محْضة في إيثار النَّفس على الآخَرين.
فلْيعلم النَّاصح لنفْسه وطالب النَّجاة: أنَّ هذه الخصلة من الصِّفات الذَّميمة الَّتي حذَّر منها الله - تعالى - في كتابه، وجعلها من صفات أهل النار، كما في قوله - جلَّ وعلا -: ﴿ وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴾ [الرعد: 25]، وقال - تبارك وتعالى -: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا ﴾ [النحل: 2]، وجعل الله - تعالى - هذه الصِّفة من سمات الكفَّار من اليهود ومَن على شاكلتهم، فقال - سبحانَه -: ﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ ﴾ [الأنفال: 55 - 56].
وجعل الله - تعالى - نقْض العهد من صفات الفاسِقين الخارجين عن طاعتِه وشريعته، كما في قوله - سبحانَه -: ﴿ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [البقرة: 26 - 27]، وجعله الله - تعالى - من صنيع المنافقين كما في آية التَّوبة: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [التوبة: 75 - 77].
وفى ذلك يقول رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((آية المنافق ثلاثٌ: إذا حدَّث كذَب، وإذا وعد أخْلف، وإذا اؤتُمِن خان))؛ رواه البخاري (1/ 21) عن أبي هريرة - رضِي الله عنه، وفى رواية مسلم (1/ 78): ((آية المنافق ثلاثٌ، وإن صام وصلَّى وزعم أنَّه مسلم: إذا حدث كذب، وإذا اؤتُمن خان، وإذا وعد أخلف)).
فانظر - رحِمني الله وإيَّاك وغفر لنا - كيف أنَّ القرآن ما ذكر ذلك إلاَّ في أشدّ الأحوال قبحًا وذمًّا؛ حيث وصف به الكافرين والمنافقين والفاسقين، وحذَّر منه المؤمنين، وكيف أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وسَمَ فاعِلَ ذلك الصَّنيع الذَّميم بالنّفاق، وبيَّن أنَّه موسوم بذلك الشَّين حتَّى مع صلاته وصومه وزعمه أنَّه مسلم، وما بلغ هذا المبلغَ إلاَّ لشدَّة قبح هذه الخصلة الَّتي حريٌّ بالعاقل هجرها، وقطْع أوصال معرفتها، وخلْع دنسها، والتزيّن بثوب ضدّها؛ طاعةً لله - تعالى - ورسوله - صلَّى الله عليْه وسلَّم.
وإن كان النَّقض في اللغة ضدَّ الإبرام، وهو حلّ الشيء وإفساده وهدمه، والعهد: ما وكل لك حفْظه من وصايا وأوامر ومواثيق، فإنَّ المعنى العامَّ لنقْض العهد هو: خلْع اليد عن الْتزام ما التزمتْه، وإتمام ما أبرمَتْه، والوفاء بما اتَّفقت عليه من قول وعمل، ظاهرًا وباطنًا، فرديًّا أو جماعيًّا.
ولا شكَّ أنَّ الأصل في نقض العهد - على ما ظهر من الآيات السَّابقة، والأحاديث السَّالفة - التَّحريم والمنْع، إلاَّ إن كان في شيء محرَّم، فلا يحل الوفاء بعهد يُغضب الله - تعالى - ورسولَه - صلى الله عليه وسلم - وكذلك قد تعتريه بعضُ الأحكام الأُخْرى من كراهة وندْب، إلاَّ أنَّه لا يكون مباحًا؛ لأنَّ ما نهى الله - تعالى - عنه فقد دخل في طوْر المنْع، فإمَّا أن يُؤكَّد ويُمنع من ضدِّه فيكون حرامًا، وإمَّا أن يكون إرشادًا فيكون مكروهًا، والأحرى بالمسلم دفْع الرَّذائل بشتَّى الصُّور ومختلف الأحوال.
ولأنَّ الحكم على الشَّيء فرع عن تصوُّره، فإنَّ صور نقْض العهد في حياتنا وواقعنا المعاصر، وهدْم بنائه، وإفساد إبرامه، ونكْثه - متعدِّدة، تقع على حالات مختلِفة، بعضُها أقبح من بعض؛ فمن ذلك:
• نقض العهد مع الله تعالى؛ بهجر طاعته، واتِّباع سبُل الغواية، والإعْراض عن الهداية، والانحِدار في جرف المعْصية، واتباع الأهواء والشَّهوات، وخذْلان دينِه حين المطالبة بالنُّصرة، وموالاة أعدائه، ومحاربة أوليائه، ونحو ذلك ممَّا يضادّ الإيمان وكماله، ويظهر على قول الإنسان وعمله.
• خلْع يد الطَّاعة عن سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستِدْبار أمرِه ومُقابلته بالإعراض عن العمَل، بالإضافة إلى التولِّي عن أرض معركةٍ طُلِب فيها نُصرة سنَّته وهدْيه - صلَّى الله عليْه وسلَّم.
• نقض العهد مع الزَّوجة والأوْلاد، بالتَّقصير في الحقوق وعدم أدائها، وعدم رعايتهم في دينهم وأخلاقهم، وتعريضِهم للفتن السلوكيَّة والأخلاقيَّة، وتيْسير سبُل المعاصي لهم في ظاهرِهم وباطنهم، ممَّا يعدُّ خيانة للأمانة، ونقضًا لإبرام التَّربية والتَّهذيب والرِّعاية، وإخفاقًا في اختبار أعدَّه الله - تعالى - ليبلوَ به وفاء مدَّعي الإيمان؛ مصداقًا لقوله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [الأنفال: 27 - 28].
• ما يقع فيه الكثير من المعلّمين مع تلاميذِهم، من عدَم الوفاء بميثاق التَّربية والتَّعليم، فترى التَّقصير في التَّدريس، وعدم حسن العرْض للموادّ، وقضاء وقت الحصَّة الدّراسيَّة فيما لا يفيد الطَّالب، فضلاً عن تقْصير المعلِّم في رعاية الطَّالب ونُصْحه وإرْشاده، فلا جرم أن يكون الطَّالب على شاكلة أستاذِه أيضًا منغمسًا في نقْض العهد، وقطْع أوصال الطَّاعة والولاء، والاحترام والتَّقدير، والشُّكْر والعرفان والتَّكريم، وصدَق الله - سبحانه -: ﴿ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأنعام: 129].
• ما نراه ونشاهده من صنيع الموظَّفين في كثير من الدَّوائر الحكوميَّة من تقصير في الأعمال، وعدم القيام بِمصالح النَّاس، والبطْء في إنهاء الإجراءات، والتَّشديد والتَّعسير والتَّلميح للرَّشاوى من طرف خفيّ، فإنَّ هذا من نقْض العهْد مع العمل وميثاق الشَّرف.
فانظر - رحِمني الله تعالى وإيَّاك - إلى هذه الآفة القديمة الجديدة التي تفشَّت وانتشرتْ وأظلَّت بغبارها الأسود على معاملات المسلمين، واتّفاقاتهم في شتَّى الميادين، ممَّا يؤدِّي إلى التَّأخُّر في ذيل الرَّكب، والعجْز عن اللّحاق بحضارة سلَفِنا ومجْدِهم.
ولأنّ كلَّ داء له أسباب عرَفها مَن عرفها وجهِلها مَن جهلها، فإنَّ هذا المرض العضال حريّ بأن نبحث عن أسبابه ودوافعه، ونُحاول وضْع اليد على موطن الجرح مع حُسن تشْخيص؛ للقضاء عليه والتخلُّص من أعراضه وبقائه، وإذا أخفق المرْء في علاجه، فلا أدْنى من تَحجيمه وتقْويضه، إمَّا في الفرد وإمَّا في المجتمع.
فمن الأسباب التي يُمكن أن تكون الدَّافع لنحْو هذا السّلوك الخبيث:
1- أصْل الجبلَّة والخلقة؛ فإنَّ الإنسان ظلوم جهول، فظُلْمه بسبب جهْلِه، فأمَّا الظلم فالانتِقاص، وخُلْف الوعد انتِقاص، وأمَّا الجهل فنقْص، وهو متوافق مع مفهوم نقض العهد.
2- عدم التحلّي والتزيُّن بزينة الرّسالة، وضوء النبوَّة، وجواهر إكليل السنَّة، ولآلئ القرآن الكريم.
3- عدم التصوّر السليم؛ فإنَّ المرء لو تصوَّر قُبْح هذا الصَّنيع عقلاً لما أقْدم عليه، فضلاً عن تصوّر قبْحِه شرعًا.
4- ضعف الهمَّة الدَّافعة إلى التَّغيير والتحوّل من حالٍ إلى حال، وهذا عنصر يَحتاج لبحث بمفرده؛ فإنَّ دفع الهمَّة يحيطه جملة من العوامل لتشخيصه ثمَّ استئصاله؛ كالرّكون لأصْل الطَّبع، والاستِسْلام للفتور، والتَّأثّر بالبيئة المحيطة المثبطة، بالإضافة إلى تسلُّل روح اليأْس في بعض الأحايين.
5- الهوى والشَّهوة؛ فالهوى يحثُّ على مخالفة مستقيم المنقول والمعْقول، والشَّهوة تدفع لهضْم حقِّ الآخرين في سبيل إشْباع الرَّغبات الشَّخصيَّة والأغراض الخاصَّة.
فهذه جملة من الأسباب الَّتي يجب على المرْء الوقوف معها، والتخلّي عنها، والتحلّي بضدِّها؛ ليتخلَّص من خلُق ذميم لا يليق بعباد الله الموحّدين، وعلاجها يسير بأمر الله - تعالى - من خلال ربْط النَّفس بخالقها وبارئِها وشرْعِه ووحْيه، والتشبُّع من القرآن الكريم والسنَّة النَّبويَّة، والتشبّه بالعالمين العامِلين من سلفنا الصالح - رضي الله عنهم أجمعين - وإدْراك مدى خطورة هذا الأمر على المجْتمعات وكيانها، وأنَّه هضمٌ لحقوق الآخرين في صورة لا تُفْضي إلاَّ إلى خسران مبين على الخاصَّة والعامَّة، فيجب أن تُمحى من مُجتمعاتِنا المسلمة.
لعَمْرُكَ ما الرزيةُ فقدُ مالٍ ... ولا فرسٌ يموتُ ولا بعيرُ
ولكن الرزيةَ فقدُ حرٍ ... يموتُ لموتِهِ خَلْقٌ كثيرُ



 حديث رمضان 16
جواد عبد المحسن


إرسال تعليق

0 تعليقات