شهيق الحياة الاول تضحيات والتزامات


شهيق الحياة الاول تضحيات والتزامات

  ان سرد الماضي حين نسرده بقولنا – لقد بنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدولة في المدينة – او حين نقول – لقد هاجر المسلمونَ الى المدينة – او حين نقول – لقد فتح المسلمونَ بلاد الشام – ربما لا نتصور حجم المعاناة والضيق والفقر او العزم والاصرار والتضحية ...... فالمسافة بين المدينة ومكة تقارب ( 500 ) كم وهذه المسافة قطعها المهاجرون خطوةَ خطوة في اجواء الصحراء وقلة الماء والزاد ووحشة البيداء ، ولو قارنا هذه المسافة وهذه الاوضاع بهذا الاصرار وهذه العزيمة والتضحية لعلمنا القوة الكامنة المستقرة في نفوسهم وتعلقهم بهذا الدين .
  ونحن حين نسرد الماضي ونقول – لقد فتح المسلمونَ بلاد الشام – لابد لنا ان نتصور المسافة بين المدينة ودمشق وأن نتصور وضع اخوتنا الذين سبقونا بالايمان والذين جاءوا من اليمن مدداً للجيوش وهذه المسافة من اليمن الى دمشق والتي قطعت خطوةً خطوة على ظهر ناقة او بعير او على ظهر الخيل وتصورنا كيف كانوا يشربونَ وكيف كانوا يطعمونَ ظهورهم وكيف كانوا يسيرون وتمعنا في هذا لادركنا حجم التضحية والجهد المبذول من قبلهم قربى لله عز وجل حتى يرضى عنهم ، ولادركنا كيفية تلقيهم لقول الله عز وجل {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ }آل عمران133
   وكذلك الامر حين نقول – لقد بنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدولة في المدينة – ربما لا نتصور حجم المعاناة والضيق والفقر والتضحية والعزم والاصرار حتى يتم الامر وتستقر الاوضاع وينشا المجتمع الاسلامي ، فأحببت ان اسرد قصصاً وأقرب صوراً عن اوضاعهم وأحوالهم حتى نحاول ان نعيش الاحداث معهم ونشهد الوقائع .
  لقد حدث هذا الامر وأقام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الدولة ونحن اليوم نعيش وعد الله لنا بالاستخلاف ويمكن ان نعيش وضعهم واحوالهم فلا يقولنَّ قائل : انه بمجرد ان يمنَّ الله علينا بالنصر وتقام الخلافة الثانية على منهاج النبوةِ فان كل الامور سوف تحل ولن توجد مشكلة ، فأمير المؤمنين هو الحل السحري والطاقة غير المحدودة لعلاج اي امر ، فبمجرد قيام الدولة ووجود الخليفة سوف تحل مشكلة الفقر والتوظيف والضيق وقلة الموارد ومجرد وجوده سوف يحثو المال حثواً ولا يعده عدّا .
   لا يقولنَّ هذا القول قائل ، فلقد عانى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته ومن آمن معه من التربص والغدر والمؤامرات في شهيق حياة الدولة الاول في السنة الاولى ممن كانوا في المدينة ومن حولها من يهود ومنافقين وأعراب ، وعانى وأصحابه وعاشوا الفقر والجوع وقلة الموارد ،والكافر اليوم اخبث من كافر الامس ، ومنافق اليوم اخبث من منافق الامس ، فكان لابد من ابراز هذه الصور والاحداث حتى تتهيأ النفس لما قد يحصل .... فالقضية ليست بهذه البساطه والسلاسة .
   انه لمن البديهي ان ندرك ادراكاً فكرياً هذه المرحلة وأن نعيها وعياً مستنيراً نضع فيه العلاج لما قد يحصل حتى لا تأخذنا المفاجأة ، اذ ان هذه المرحلة لا تقل صعوبة وخطورة عن مرحلة استلام الحكم بل هي اصعب وأخطر منها ، فإن الوصول للحكم وان كان صعباً فإن المحافظة على استمراره وبناء المجتمع اصعب وأشق وأخطر ، واننا في هذه الفترة نحتاج الى الجهد المضاعف والتضحية اللامحدودة ، لاننا نحن النواة الصلبة واللبنات الاستنادية والمرتكزات لهذه الدولة ، وسواء أكنا كالمهاجرين ام كالانصار فإن من اوجب الاعمال واولها ان نكون كلنا بأجسادنا وأولادنا وأموالنا وطاقاتنا تحت تصرف الخليفة وبأمره فيما شاء وكيف شاء حتى دون اخذ رأينا ، لان الوقت حَرِجٌ والمؤامرات كثيرة .
  لقد كان الصحابة في مقدمة كل امر دقّ او جلّ غزوة يسر ام غزوة عسر لانهم ادركوا كونهم سهام الاسلام الاولى والنواة الصلبة فقد وصفهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر حين تضرع إلى الله فقال ( الله ان تهلك هذه العصابه فلن تعبد في الارض ) فواجب علينا توطين انفسنا والتعاطي مع هذا الامر لانه هكذا هو ، وهو وعد الله لنا وما اصدق من الله قيلا ، بغض النظر عن العدد والقوة فقد روى البخاري في صحيحه عن ابي وائل عن حذيفة رضي الله عنه قال ( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم اكتبوا لي من تلفظ بالاسلام من الناس فكتبنا له الفاً وخمس ماية رجل فقلنا نخاف ونحن الف وخمس ماية ، فلقد رايتنا ابتلينا حتى ان الرجل ليصلي وحده وهو خائف ) وفي حديث النسائي عن حذيفة قال ( احصوا لي كم يلفظوا الاسلام فقلنا يا رسول الله اتخاف علينا ونحن ما بين الستماية الى السبعماية ؟؟ قال انكم لا تدرون لعلكم تبتلوا قال فابتلينا حتى جعل الرجل منا لا يصلي إلى سراً ) وكانت هذه الصورة بعد الهجرة مباشرة .
   وكذلك الامر بالنسبة للامة فإن عليها ان تدرك واجبها الشرعي تُجاه هذا الامر ، وأن تُسقى الامة هذه المفاهيم سقيا مؤثراً ، فان الكافر وصنائعه وأذنابه سوف يحاولون استخدامها كوسيلة هدم او ضغط في خضمِّ الاحداث ، وان تدرك فلا تكون الامة التي هتفت لدولة الخلافة وللامير وتشوقت للحياة الاسلامية  اليوم ان تهتف ضده في الغد وتضيع تضحياتها شذر مذر ، فالذين خرجوا للقاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يستقبلونه ويهتفون :
طلع البدر علينا      من ثنيات الوداع
   فإن هذا الكلام عبر عن موقفهم فلم يغيروه او يبدلوه رغم الجوع والعنى والعنت فعلى هلكه المال والولد قد بايعوه وعلى قتال الاحمر والابيض قد عاهدوه ، فالامة التي كانت البانية اليوم لا يحل لها ان تدع الغير يستخدمها معولاً للهدم في الغد وصدق الله العظيم{ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً }النساء141
   ان الكافر حين يرى ويسمع قيام دولة الخلافة لن يستقبل هذا الامر بالفرح ولا ببرقيات التهنئة والتأييد مطلقاً ، وانما يعتبر هذا الامر ناعياً مؤذناً لخراب بيته وفقره ولن يُسّلم بالامر الواقع ولن يبقى مكتوف اليدين ولسوف يحاول ما استطاع جاهداً ان يهدم هذا البناء بكل وسيلة وأسلوب منها : -
1 – اثارة الرأي العام على هذا الكيان واعتباره – مهدداً للسلم العالي وهذا ما حصل حين استعدت قريش قبائل العرب فرمت المسلمين في المدينة عن قوس واحدةٍ وحالفتهم يهود في ذلك بل وقالت عن دينهم بأنه خير من دين محمد وصدق الله العظيم{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً }النساء51.
2 – استقطاب الصنائع والعملاء الفكريين وجعل عواصم بلاد الكفر منابر توجه عواءها ونعيقها للفت في عضد الامة ولزرع بذور الريبة في نفوسهم ، وهذا ما حدث ويحدث ونراه ونسمعه ممن يصفونَ انفسهم بالمعارضة والوسط السياسي ، سواء اكانوا من سوريا ام العراق ام الجزائر وغيرها، فهم حاضرون وجاهزون للاستعمال الفوري .
3 – استخدام الامم المتحدة وهيئاتها ودوائرها ابواق دعاية وخراطيم لتمرير ما يشاءون من قرارات تهدف لاضفاء الشرعية على كل عمل يعملونه او قرار يقررونه ووصف اي فعل للدولة بأنه اعتداء وارهاب ، وهذا ما حصل للعراق وغيره من بلاد المسلمين فهذه وصايه وهذا انتداب وغيره وغيره .
4 – الحصار الاقتصادي : وهذا الامر يدركونه ويعونه وعياً واضحاً اذ ان العالم الاسلامي يستورد اكثر احتياجاته وهو يعتبر من المستهلكين الممتازين للغرب ، والامة مع الاسف لا تنتج ما تأكل او ما تحتاج ، سواء اقله اهمية ام اكثره ابتداءً من مساحيق وسوائل التنظيف الى القمح ،ولسوف يعملون جاهدين ليصلوا لمرحلة يرفعون فيها شعار الغذاء مقابل العزة كما رفع بالامس شعار النفط مقابل الغذاء .
5 – اثارة النعرات الداخلية لاشغال الدولة الفتية او محاولة حرفها عن الطريق الذي تترسمه كما فعلت يهود في المدينة وجوارها ، او حتى  يحاولوا تنصيب خليفة ترضى عنه امريكا .
   فلا بد للامة ان تدرك وتعي ما هي مقبلة عليه وأن تواجه هذه العقبات وغيرها بالعزم والاصرار والتضحية ، فالجوع والفقر والعنت لا يعتبر وليس له حساب في سبيل الغاية الاسنى والطريق الاسمى ، فان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد عاس هذه المرحلة وجاع وجاع معه الصحابة وعاشوا الفقر والخوف فلم يمنعهم خوفهم وفقرهم وجوعهم عن السير في الطريق الموصل لعز الدارين ومن ضمن هذه الصور ان احمد قد اخرج عن انس ان فاطمة رضي الله عنها ناولت النبي صلى الله عليه وآله وسلم كسرة من خبر الشعير فقال لها : (هذا اول طعام اكله ابوك منذ ثلاثة ايام) ( حياة الصحابة للكاندهلوي جـ1 ص 298)
   واخرج الشيخان عن عروة عن عائشة رضي الله عنها انها كانت تقول ( والله يا ابن اختي انا كنا لننظر الى الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة اهلةٍ في شهرين ، وما اوقد في ابيات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نار ، قلت : يا خالة فما كان يعيشكم ..؟؟؟؟ قالت الاسودان : التمر والماء ، إلا انه قد كانَ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جيران من الانصار وكانت لهم منائح ، فكانوا يرسلونَ الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من البانها فيسقيناه )
   واخرج ابو نعيم في الحلية والخطيب ، وابن عساكر ، وابن النجار عن ابي هريرةَ رضي الله عنه قال دخلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلي جالساً فقلت يا رسول الله اراك تصلي جالساً فما اصابك ...؟؟؟ قال الجوع يا أبا هريره ، فبكيت فقال لا تبك يا أبا هريرة فإن شدة الحساب يوم القيامة لا تصيب الجائع اذا احتسب في دار الدنيا ) .
   واخرج البخاري والترمذي عن ابن سيرين قال : كنا عند ابي هريرةَ رضي الله عنه وعليه ثوبان ممشقان – يعني مصبوغان بالاحمر – من كتان فمخط في احدهما ثم قال : بخٍ بخٍ يمتخط ابو هريرةَ في الكتان ، لقد رأيتني واني لاخرُّ فيما بين منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحجرةَ عائشة رضي الله عنها مغشياً عليَّ فيجئُ الجائي فيضع رجله على عنقي يرى ان بي الجنون وما هو الا الجوع ) .
   ان امير المؤمنين القادم بوعد الله ومشيئته لسوف يحثو المال حثواً ولا يعده عداً ، ولكنَّ هذا الامر وهذه المرحلة والتي وصفها ابو هريرة حين قال ( بخٍ بخٍ يتمخط ابو هريرة في الكتان ) تسبقها مرحلة وهي التي نناقشها ونحاول ان نوطد النفس لاستقبالها والتعاطي معها – ان حدثت – وهي كما وصفها ابو هريرة حين قال ( فيضع رجله على عنقي يرى ان بي الجنون وما هو لا الجوع ) فمرحلة الجوع والعنى والعنت نستعين بالله عليها وصدق الله العظيم {وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ }محمد35
   ان بحبوحة العيش ورغده في الدولة الفتية تحتاج الى التضحية والبذل والعزيمة والاصرار للوصول اليها فالجنة حفت بالمكاره والنار حفت بالشهوات ونسأل الله العافية .
   ان العمل لاستئناف الحياة الاسلامية فرض ولا يمكن فصل الفرض عن متعلقاته الازمة له ، والتضحية من متعلقاته الازمه وحكمها كحكمه اذ انه لا يتم العمل لاستئناف الحياة الاسلامية واستمرارها الا بالتضحية وما لا يتم الواجب الا به فهو واجب وصدق الله العظيم {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ }البقرة214، وقوله تعالى  {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }التوبة24 .

حديث رمضان 16
جواد عبد المحسن



إرسال تعليق

0 تعليقات