ذم آخر الزمان

 


ذم آخر الزمان

 لقد وردت أحاديث كثيرة في ذم آخر الزمان، وذم أهل ذلك الوقت، وهذه الأحاديث ليست موضوعنا الليلة، فهي تراجع في كتب الفتن والملاحم، وأشراط الساعة، وغيرها، وقد أكثر أهل العلم من ذكرها وتخريجها.

ولعل من أبرز هذه الأحاديث على سبيل المثال مما يناسب المقام: الحديث المشهور الذي رواه مسلم وغيره: ( إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء ).

وهذا الحديث أكد أن الأمر سيعود كما بدأ، غربةً للإسلام مستحكمة، وقلةً في الدعاة والعلماء، ولكن تلاحظون في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحدد متى يقع هذا، متى يكون زمان الغربة هل هو في القرن الثالث أو الرابع أو الخامس أو العاشر أو العشرين أو ما بعد ذلك؟

هذا أمر الله تعالى أعلم به، ولذلك فتطبيق هذا الحديث على واقع بعينه زمان بعينه أو مكان بعينه مما هو موضع اجتهاد وتأمل، ولا يستطيع أحد أن يجزم ويقطع بأن مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، اللهم إلا ما يتعلق بالأزمنة التي تكون قبيل الساعة، حينما يبعث الله تعالى الريح الطيبة فتقبض أرواح المؤمنين ولا يبقى إلا شرار الناس، يتهارجون تهارج الحمر، وعليهم تقوم الساعة، فإنه لا شك أن ذاك الزمان من الأزمنة التي استحكم فيها غربة الإسلام بكل وجه.

كما أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يحدد في ذلك الحديث هل يكون بعد الغربة الثانية تمكين للإسلام وعز لأهله أم لا؟ وإن كان قوله: ( وسيعود غريباً كما بدأ )، يومئ ويوحي بأن الغربة الأخيرة التي تكلم عنها الرسول صلى الله عليه وسلم غربة لا ارتفاع بعدها، ولا عز للمسلمين.

وحتى في هذه الأحاديث -أحاديث الغربة- معنىً مهم؛ وهو: أنه مع وجود الغربة، ومع كثرتها، ومع استحكامها إلا أن الحديث أشار إلى وجود المتمسكين بالدين، الرافعين لرايته، المنافحين عنه، وهؤلاء يقومون بالدعوة والإصلاح.

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( فطوبى للغرباء )، وفي بعض الروايات: ( أنه وصف الغرباء بأنهم النزَّاع من القبائل )، وفي رواية أخرى: ( الذين يصلحون إذا فسد الناس )، وفي رواية: ( الذين يصلحون ما أفسد الناس )، وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( هم قوم صالحون قليل، في أهل سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم ).

فقد بين عليه الصلاة والسلام أنه حتى في أزمنة الغربة هناك ثم دعاة مصلحون، يأمرون الناس بالبر، ويأمرون بالمعروف، فيطيعهم من يطيعهم، ويعصيهم من يعصيهم، وإن كان العصاة لهم أكثر من المطيعين، والكثير من الناس لا يفقهون من معنى حديث الغربة إلا أن   ( الإسلام سيعود غريباً )، وأن هذا الأمر عذر لهم في القعود، وعذر لهم في ترك العمل، وعذر لهم في ترك الجهاد، ولا يفقهون ولا يطمعون أن يكونوا من الغرباء، من النزَّاع من القبائل، من الذين يأمرون بالقسط من الناس، فيعصيهم من يعصيهم، ويطيعهم من يطيعهم، من الموعودين بطوبى، وهي الخير الكثير الطيب المبارك في الحياة الدنيا بالتوفيق والتسديد والتصدير والتثبيت، وفي الآخرة بشجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام ما يقطعها.

ومن الأحاديث الواردة في ذم آخر الزمان ما رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: ( لا يأتيكم زمان إلا والذي بعده شر منه، حتى تلقوا ربكم. سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم ).

فهذا الحديث صريح في أن الزمان كلما بعد العهد قلت فيه الخيرية، وكثر فيه الشر، فالذي بعده شر منه، وهذه قاعدة عامة، وليس المعنى أنه عام أقل مطراً من عام، أو أقل خصباً، أو أقل خيراً من حيث الدنيا، وإنما المقصود من الناحية الشرعية، وهذه القاعدة يقابلها قواعد أخرى أثبتت أن للأمة أيضاً أزمنة يكثر فيها الخير، ويأذن الله تعالى بتجديد الدين، وإحياء الشريعة، وإقامة الملة العوجاء، ودعوة الناس وجمعهم على الحق والخير والهدى.

ومثله أيضاً الحديث الذي رواه أحمد وأهل السنن وغيرهم، وذكره البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( كيف أنت يا عبد الله إذا بقيت في حثالة من الناس قد مرجت عهودهم، وخفت أماناتهم، واختلفوا فكانوا هكذا؟ وشبك النبي صلى الله عليه وسلم بين أصابعه، فقال: ما تأمرني يا رسول الله؟ قال: تأخذ ما تعرف، وتدع ما تنكر، وتقبل على أمر خاصتك، وتذرهم وعوامهم ).

فهذا الحديث فيه أن الناس قد يصيرون إلى هذا الأمر الذي ذكره النبي عليه الصلاة والسلام حثالة من الناس، بقية مثل الحثالة التي في آخر الإناء، قد مرجت عهودهم وأماناتهم، واختلفوا، واضطربوا، وتشابكوا، وكثر فيهم القيل والقال، ولكن أيضاً تلاحظون في هذا الحديث أموراً:

أولاً: أنه مع ذلك هناك بقية من أهل الخير والهدى يدعون إلى الأمر الأول، وينهون عن الفساد في الأرض، ولمثل هؤلاء جاء التوجيه النبوي أن تقبل على خاصتك، وتذر العامة، وأن تأخذ ما تعرف وتذر ما تنكر، هذا أولاً.

ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن هناك خاصة للمؤمنين وللدعاة، وهؤلاء الخاصة هم القريبون منهم، الذين انتفعوا بعلمهم ودعوتهم وجهادهم، فهداهم الله تعالى وبصرهم وأرشدهم، فكانوا دعاةً يقيمون الحجة على العالمين، وهؤلاء يجدون من الروح والسعادة والإيمان واليقين في قلوبهم ما لا يجده حتى المجاهدون في ميادين المعارك أحياناً، فإن الله تعالى ينزل عليهم من برد اليقين، ولذة العيش في الدنيا ما يعوضهم خيراً مما فقدوه من الناس، فهم وإن كانوا قلة في عددهم إلا أنهم كثرة في قوة إيمانهم وصبرهم ويقينهم وتعززهم بالإيمان، قال الله تعالى: ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة:24].

إن هذه النصوص وغيرها كثير كثير، تقتضي بلا شك التسليم بخيرية القرون الأولى وأفضليتها، وهذا محل إجماع، فقد جاء في الصحيحين من حديث عمران وابن مسعود وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم.. ) إلى آخر الحديث المعروف، فليس لي شك في أن تلك القرون قد ذهبت بالخيرية والفضيلة لقربها من عهد النبوة، وحملها للرسالة، وحفظها للقرآن والسنة، وجهادها في سبيل الله، وتثبيتها لأمر الإسلام، ولكن ليس في شيء من الأحاديث المذكورة، ولا فيما يشبهها حكم على جميع الناس في جميع العصور، وفي جميع الأزمنة، ولا في شيء منها تسويغ للقعود، وترك العمل أو وصم الأمة كلها بوصمة الانحلال من ربقة الدين، أو الانحراف عن شريعة سيد المرسلين عليه صلوات الله تعالى وسلامه.

إرسال تعليق

0 تعليقات