الرعاية الصحية في دولة الخلافة

 


الرعاية الصحية في دولة الخلافة

الصحةُ في اللغةِ خلافُ السُّقْمِ، وذهابُ المرضِ، وهيَ أَيضاً البراءَةُ منْ كُلِّ عيبٍ وريبٍ، والصحةُ في البدنِ حالَةٌ طَبِيعِيَّةٌ تَجْرِي أفعالُهُ مَعَهَا على المجرى الطبيعيِّ.

وفي الاصطلاحِ الحديثِ اتسَعَ مفهومُ الصحةِ ليشملَ الجانبَ النفسيَّ إضافةً إلى الجانبِ الجسديِّ، متجاوزًا حدودَ السلامةِ منَ العيوبِ العضويةِ، ليضمَّ أيضًا السلامةَ منَ العيوبِ النفسيةِ والاجتماعيةِ، فالصحةُ إذنْ حالةٌ منَ المعافاةِ الكاملةِ بدنيًّا ونفسيًّا واجتماعيًّا.

أما الرعايةُ الصحيةُ، فهيَ القيامُ على صحةِ الرعية بمراقَبَتِها وحِفْظِها وتَدبيرِ شُؤُونِها بما منْ شَأْنِهِ أنْ يوصِلَ إلى العافيةِ الجسديةِ والسَّلامةِ النفسيةِ. وهيَ تشملُ الوقايةَ منَ الأمراضِ قَبْلَ أنْ تَقَعَ، ومتابعتَها وعلاجَها إنْ وَقَعَتْ، سواءَ على صعيدِ الفردِ أوِ المجتمعِ.

لقدْ سيطرتِ الرأسماليةُ على العالمِ رَدْحًا مِنَ الزمانِ، سادتْ خلالَهُ أنظمةٌ قامتْ على فصلِ الدينِ عنِ الحياةِ، وَحَكَمَتْ على امتدادِهِ دولٌ لمْ تقمْ لترعَى شؤونَ الناسِ، فَتَأْخُذَ على يدِ الظالمِ وتزجُرَهُ، وتَجْزِيَ المُحْسِنَ أوْ تُعينَهُ وتشكرَه. دولٌ لمْ ترحمِ الضعفاءَ، ولمْ تأخُذْ بأيدي الفقراءِ، بلْ كانتْ وظيفتُها الوحيدةُ- حمايةَ حرياتِ اللصوصِ من أربابِ المالِ في نهبِ الشعوبِ واستغلالِ الثرواتِ.

هذا ولمْ تَسْلَمِ الرعايةُ الصحيةُ مِنْ جَوْرِ الرأسماليةِ، ولمْ تَنْجُ منْ أنظمتِها وطريقةِ عيشِها، فأضْحَتْ أداةً لرؤوسِ المالِ، يستغلونَها -كما استغلُّوا كلَّ شيءٍ- لمصِّ دماءِ المرضى الضعفاءِ وأموالهِم، ولإشباعِ جَشَعِهِمْ وَنَزَوَاتِهِمُ التي لا تشبعُ. ومنْ فُحشِ الرأسماليةِ، أنْ ظهرَ الفسادُ في كلِّ نَواحي الرعايةِ الصحيةِ تقريبًا: في نظامِ التأمينِ الصحيِّ وشركاتِهِ، وشركاتِ الأدويةِ وأبحاثِها، واستغلالِ هذهِ الشركاتِ للأطباءِ واستغلالِ الأطباءِ للمرضى. وظهرَ الفسادُ كذلكَ في بِدْعَةِ الملكيةِ الفكريةِ وبراءاتِ الاختراعِ، حتى غَلا سعرُ الدواءِ وثمنُ الرعايةِ الصحيةِ وَأَضْحَتِ القضيةُ هيَ تحقيقَ الربحِ على حسابِ حاجةِ المرضى للعلاجِ والرعايةِ. وَكما في كُلِّ مكانٍ دخلتهُ الرأسماليةُ، لا بقاءَ ولا حياةَ للضعيفِ، ولا قيمةَ إلا للمالِ.

لقدْ جعلَ الشرعُ الرعايةَ الصحيةَ منْ مسؤوليةِ الدولةِ والخليفةِ مباشرةً، فقالَ (صلى الله عليه وآله وسلم): "الإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ"، رواهُ البخاريُّ. فالصحةُ منَ الحاجاتِ الأساسيةِ للرعيةِ، حيثُ إنَّ الرسولَ (صلى الله عليه وآله وسلم) قالَ: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، آمِنًا فِي سِرْبِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا"، جاعلاً الصحةَ حاجةً أساسيةً كالقوتِ والأمنِ.

وأما كونُ الرعايةِ الصحيةِ فرضاً على الدولةِ أنْ تقومَ بها، فظاهرٌ في أنها منَ الرعايةِ الواردةِ في حديثِ: "الإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ". ومعَ أَنَّ التداوي منَ المندوباتِ لأمرِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتداوي حيثُ قالَ: "عِبَادَ اللَّهِ تَدَاوَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً (أَوْ قَالَ دَوَاءً)، إِلا دَاءً وَاحِدًا"، قَالُوا: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُوَ؟"، قَالَ: "الْهَرَمُ"، رواهُ الترمذيُّ وصححَّهُ الألبانيُّ، إلا أنَّ عدمَ توفيرِ الرعايةِ الصحيةِ للرَّعِيَّةِ يُؤَدِي إلى الضررِ، وإزالةُ الضررِ واجبةٌ على الدولةِ، قالَ (صلى الله عليه وآله وسلم): "لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ"، رواهُ الدارقطنيُّ وهوَ عندَ الحاكمِ صحيحٌ على شرطِ مسلمٍ، فمنْ هذهِ الناحيةِ أيضاً كانتِ الرعايةُ الصحيةُ واجباً على الدولةِ.

    هذا منْ ناحيةِ الأدلةِ العامةِ على كَوْنِ الرعايةِ الصحيةِ واجبةً على الدولةِ، أما الأدلةُ الخاصةُ على الوجوبِ ف في البخاريِّ ومسلمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ا قَالَ: "قَدِمَ أُنَاسٌ مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بِلِقَاحٍ وَأَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا"، واللفظُ هنا للبخاريِّ، وعندَ مسلمٍ أنَّهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) قالَ لهمْ: "إِنْ شِئْتُمْ أَنْ تَخْرُجُوا إِلَى إِبِل الصَّدَقَة فَتَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانهَا وَأَبْوَالهَا فَافْعَلُوا، فَصَحُّوا"، والجَوى هوَ داءٌ في الجوفِ، أيْ أنَّ جوَّ المدينةِ لم يُوافقهُمْ وَكَرِهُوهَا لسقمٍ أصابهمْ، فاهتمَّ الرسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) بِتَهْيِئَةِ مَكانٍ لهمْ يتداوونَ فيهِ،وَقَدْ أَذِنَ لهمْ رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) في شُرْبِ لبنِ إبلِ الصدقةِ وهيَ منْ أموالِ بيتِ المالِ، وفي هذا دلالةٌ على أنَّ التطبيبَ منْ مصالحِ المسلمينَ التي يُنْفَقُ عليها منْ بيتِ المالِ.

ويمكنُ تقسيمُ الرعايةِ الصحيةِ في الدولةِ الإسلاميةِ إلى قسمينِ:

1: الرعايةُ الصحيةُ النفسيَّةُ: تتحققُ الصحةُ النفسيَّةُ بشعورِ الفردِ بالطمأنينةِ الدائِمَةِ، وينتجُ الشعورُ بالطمأنينةِ عنْ إشباعِ حاجاتِ الإنسانِ العضويةِ وغرائِزِهِ إشباعًا صحيحًا، وَفْقَ الأحكامِ الشرعيَّةِ المُنْبَثِقَةِ عنِ العقيدةِ الإسلاميةِ التي ثَبَتَتْ صِحَّتُها بشكلٍ قاطعٍ. وذلكَ لأنَّ العقيدةَ الإسلاميةَ وَحْدَها تُجِيبُ عَنْ تساؤُلاتِ الإنسانِ عنْ كُنْهِ الحياةِ وَمَصْدَرِها وَمَصيرِهِ بَعْدَها بجوابٍ مُقْنِعٍ للعَقْلِ وَمُوافِقٍ للفطرةِ، ولأنَّ الإسلامَ وحدَهُ يكفلُ إشباعَ جميعِ حاجاتِ الإنسانِ وغرائِزِهِ إشباعًا مُنَظَّمًا مُنَسَّقًا يُوازي بينَ الغرائِزِ بحيثُ لا يغفلُ غَريزَةً، ولا يَدَعُ واحدةً تَطْغَى على الأُخرى، وَكُلُّ ذلكَ بِنِظامٍ رَبَّانِيٍّ مِنْ لَدُنْ لطيفٍ خبيرٍ. وفي هذا يقولُ الله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل 97]، وَالحياةُ الطيبةُ في الآيةِ عامَّةٌ فلا تختصُّ بالآخرةِ دونَ الدُّنْيا، ويقولُ تعالى أيضًا: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأحقاف 13-14]، وَيَقُولُ سبحانه وتعالى: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى(123)وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) [طه 123-124]

كما أنَّ الصحةَ النفسيةَ مرتبطةٌ بتوفُّرِ الحاجاتِ الأساسيةِ للأفرادِ، وهيَ المأكلُ والملبسُ والمسكنُ، فبقاءُ هذهِ الحاجاتِ دونَ إشباعٍ يُؤَدِّي إلى الهلاكِ، وإشباعُها إشباعًا جُزئيًا يؤَدِّي إلى القَلَقِ النَّفْسِيِّ أوِ الاكْتِئابِ أحيانًا. لذلكَ كانَ تطبيقُ النظامِ الاقتصاديِّ الإسلاميِّ الذي يَضْمَنُ إشباعَ الحاجاتِ الأساسيةِ منْ مأكلٍ وملبسٍ ومسكنٍ، بلْ ويُتِيحُ للفردِ إشباعَ حاجاتِهِ الكماليَّةِ على أكبرِ قدرٍ مُستطاعٍ، لازِمًا للحفاظِ على الصِّحةِ النفسيةِ في المجتمعِ.

 2: الرعايةُ الصحيةُ الجسديةُ: تتعلقُ الصحةُ الجسديةُ بسلامةِ أعضاءِ الجسمِ وانتظامِ عملِها، بحيثُ تجري أفعالُهُ معها على المجرى الطبيعيِّ. والرعايةُ الصحيةُ الجسديةُ تكونُ بالوقايةِ منَ الأمراضِ قَبْلَ وقوعِها أوْ تَفَشِّيها، وعِلاجِها إنْ وَقَعَتْ، ومُتابَعَتِها إنْ طالَتْ أوْ كانتْ مُزْمِنَةً. ولذلكَ تكونُ الرعايَّةُ الصحيَّةُ للأصحاءِ والمرضى، بحفظِ الصحةِ عندَ الأوائِلِ ورَدِّها قَدْرَ المُستَطاعِ عندَ الأواخرِ.

وتُقَدَّمُ الرعايةُ الصحيةُ الجسديةُ عنْ طريقِ خدماتِ الأطباءِ والممرضينَ وباقي المهنيينَ في مجالِ الطبِّ والصحةِ، منْ خلالِ جهازٍ إدارِيٍّ يشملُ المستشفياتِ والعياداتِ والصَّيدلياتِ وباقي المُنْشَآتِ الصحيةِ، ويَتَوَلى تَدْبيرَ هذا الجهازِ الإدارِيِّ دائرةُ الصحةِ في الدولةِ الإسلاميةِ.

واما الأهدافُ العامةُ للرعايةِ الصحيةِ في الدولةِ الإسلاميةِ:

1- حفظُ الصحةِ النفسيةِ للرعيةِ: إنَّ صحةَ النفسِ وصحةَ الجسدِ أمرانِ متلازمانِ، بلْ إنَّ أمراضَ النفوسِ تُضْعِفُ البَدَنَ أَوْ تُهْلِكُهُ وَإِنْ كانَ صحيحَ البُنْيَةِ. ومفتاحُ سلامةِ الصحةِ النفسيةِ هوَ المفاهيمُ الصحيحةُ المُنْبَثِقَةُ عنِ العقيدةِ الإسلاميةِ، قالِ تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [يونس 57]، وقالَ سبحانه وتعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) [الإسراء 82]، وقالَ (صلى الله عليه وآله وسلم): "إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ"، متفقُ عليهِ. ولذلكَ كانَ حفظُ الصحةِ النفسيةِ منْ أَهَمِّ أهدافِ الرعايةِ الصحيةِ في الدولةِ الإسلاميةِ.

2- حفظُ الصحةِ الجسديةِ للرعيةِ: إِنَّ صحةَ الجسدِ كما ذَكَرْنَا مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ، والحفاظُ عليها وَرِعايَتُها مِنَ الحاجاتِ الأساسيةِ التي يَجِبُ على الإمامِ توفيرُها لرَعيَّتِهِ، كما رُوِيَ عنْ رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) أَنَّهُ قالَ: "‏مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، آمِنًا فِي سِرْبِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا"، رواهُ الترمذيُّ وابنُ ماجةَ بِسَنَدٍ حَسَّنَهُ الألبانيُّ، وقالَ (صلى الله عليه وآله وسلم): "الإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ"، رواهُ البخاريُّ.

 3- شُمُولِيَّةُ الرِّعَايَةِ الصِّحية لِكُلِ الرَّعِيَّةِ: جاءَتِ الأدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ التي اعْتَبَرَتِ الحِفاظَ على الصِّحَةِ حاجَةً أساسِيَّةً أَدِلَّةً عامَّةً تَشْمَلُ كُلَّ الرَّعِيَّةِ، سَواءَ أَكانُوا مُسْلِمِينَ أَمْ أَهْلَ ذِمَّةٍ. فالإمامُ مَسْؤُولٌ عَنْ كُلِّ رَعِيَّتِهِ، قَوِيِّهِمْ وَضَعِيفِهِمْ، غَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ، مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ.

والرعايةُ الصحيَّةُ الواجِبُ على الدولةِ توفيرُها مباشرةً تشملُ كلَّ خِدْمَةٍ صِحِيَّةٍ يُمْكِنُ أَنْ يُؤَدي عدمُ تَوَّفُرِها إلى ضَرَرٍ، وتُسْتَثْنَى من ذلكَ الخَدَمَاتُ الصِّحِيَّةُ الكماليَّةُ ألتي لا يُؤُدي فُقْدانُها إلى ضَرَرٍ، كَتَبْيِيضِ الأَسْنانِ أَوْ إِزالَةِ النَّمَشِ وما إلى ذلكَ. على أنَّ الدولةَ تَسْعى قَدَرَ المُسْتَطاعِ وَحسبَ تَوَّفُرِ المواردِ إلى تَمْكينِ الرَّعِيَّةِ مِنَ الحُصولِ على هذهِ الخدماتِ الصحيةِ الكماليةِ.

4- مَجانِيَّةُ الرِّعايَةِ الصِّحية: تُوَفِّرُ الدولةُ الرعايةَ الصحيةَ مجانًا لأفرادِ الرعية بِغَضِّ النَّظر عن كَوْنِهِم أغنياءَ يملكون نفقَةَ التطبيبِ أو فقراءَ لا يملكونها، لأَنَّ الحفاظَ على الصحةِ حاجَةٌ أساسيَّةٌ لِكُلِّ الناسِ، غَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ.

ولا يُنْظَرُ إلى عِبْءِ مثلِ هذهِ الرعايةِ الصحيةِ الشاملةِ والمجانيةِ على خزينةِ الدولةِ. فَلا يجوزُ أَنْ تُقَيَّدَ الرعايةُ بقُيودٍ لمْ يَرِدْ بها الشَّرْعُ، كَتَغْطِيَةِ حَدٍّ مُعَيَّنٍ مِنَ النفقاتِ الصحيةِ يجب على الفردِ إِكْمالَ ما زادَ عنها، أو شمولِ بعضِ الأدويةِ والخدماتِ الضروريةِ في الرعايةِ الصحيةِ المجانيةِ دونَ بعضٍ. بل يُنْظَرُ إلى المشكلةِ الصحيةِ كمشكلةٍ إنسانيةٍ، لا كمشكلةٍ اقتصاديةٍ، فيكونُ الهدفُ هوَ توفيرُ الرعايةِ الصحيةِ للرعيَّةِ على أَحْسَنِ وَجْهٍ وَأَكْمَلِهِ، ولا يكونُ الهدفُ التوفيرَ على الدولةِ أو الاقتصادَ في المواردِ.

غيرَ أَنَّهُ وإِنْ كانَ منَ الواجبِ على الدولةِ توفيرُ الرعايةِ الصحيةِ مجانًا للجميعِ، فإنَّهُ لا يُمْنَعُ أحدٌ أنْ يُوَفِّرَها لنفسهِ، لما روى البخاريُّ عنْ أنسٍ (رضي الله عنه) قالَ: "دَعَا النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) غُلاماً حَجَّاماً فَحَجَمَهُ، وَأَمَرَ لَهُ بِصَاعٍ أَوْ صَاعَيْنِ، أَوْ مُدٍّ أَوْ مُدَّيْنِ، وَكَلَّمَ فِيهِ فَخُفِّفَ مِنْ ضَرِيبَتِهِ". والحجامةُ في ذلكَ الوقتِ كانتْ منَ الأساليبِ التي يُتَطَبَّبُ بها، مما يدُلُّ على جوازِ أن يُوَفِّرَ الفردُ لنفسِهِ الرعايةَ الصحيةَ والتَطْبيبَ.

5- التَّمَيُّزُ وَالتَّقَدُّمُ في عُلومِ الصحةِ: الرعايةُ الصحيةُ حاجةٌ ضروريةٌ يُعْتَبَرُ تَوْفيرُها مَصْلَحَةً من مصالحِ الأمةِ الحيويةِ، وَيُهَدِّدُ فُقْدانُها حياةَ الأمة. ولذلكَ لا بُدَّ أن تكونَ الدولةُ الإسلاميةُ في طَلِيعَةِ الدُّوَلِ منْ حيث الرعاية الصحية، ولا بُدَّ من إِيجادِ حَشْدٍ من الأطباءِ والعلماءِ والمُخْتَصينَ المُؤَهَلينَ عِلْمِيًّا وفِعْلِيًّا لابتكارِ الأساليبِ والوسائلِ اللازمةِ للرعايةِ الصحيةِ، ولا بُدَّ مِنْ توفيرِ أَقْصى إمكانياتِ البحثِ والابتكارِ العِلْمِيِّ لهم. والهدفُ هو أنْ تمتلكَ الدولةُ الإسلامية زمامَ الأمورِ في مجالِ الرعايةِ الصحيةِ وتُحَقِّقَ الاكتفاءَ الذاتيَّ، حتى لا تَقَعَ تحت تأْثيرِ الدولِ الكافرة رجاءَ مصلحةٍ من المَصالحِ الصحيةِ، قالَ سبحانه وتعالى: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) [النساء 141]، وهذهِ الآيةُ إِخْبارٌ بِمَعْنَى الطَّلَبِ، وَرَدَ فِيها النَّفْيُ باستعمالِ حرفِ "لَنْ" الذي يُفيدُ التَّأْبيدَ، وَهُوَ قَرينَةٌ على أَنَّ النَّهْيَ عنْ أَنْ يَكونَ للكافرِ سبيلٌ على المؤمنينَ هوَ نهيٌ جازمٌ، فَهُوَ يُفيدُ التَّحْرِيمَ، وهذا النَّصُّ عامٌّ لأَنَّ (سَبِيلًا) جاءَتْ نَكِرَةً في سِياقِ النَّفْيِ، فَالنَّصُّ يَشْمَلُ بِعُمومِهِ السُّلْطانَ العسكريَّ والثقافيَّ والصحيَّ.

إرسال تعليق

0 تعليقات