الأدلة والفراعنة


الأدلة والفراعنة


إن فرعون ليس إسماً لشخص بل هو توصيفٌ لوظيفة تُنْبئ عن البطش والظلم والإستكبار في قوله تعالى {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعا}القصص 4 ,فالإستعلاء هو وصف للفرعون وكقوله تعالى{وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ{10} الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ{11} فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ{12}الفجر,فالجبار المسرف الطاغية الظالم وكل ما يدور ضمن هذا المعنى هو الفرعون الذي قال في السابق {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي}القصص38,ويقول اليوم أنا ربكم الأعلى يعينه الملأ من المنتفعين بل ويزيدونه ضلالاً على ضلاله.

إن الفرق كبير بين ايمان الإجبار وايمان الإختيار والفراعنة في كل عصر يمارسون ايمانَ الإجبار على شعوبهم حتى يذعنوا لهم ويخضعوا له حين قال (أنا ربكم الأعلى) وحين قال{أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ}الزخرف52,وفي عنفوانِ غفلة الفرعونَ كجهةِ كفر وضلال يأتي موسى كجهة حق و إيمان ولا بد لهذا الحق من حجةٍ ودليل{فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ{107} وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ{108},بعد أن قال الفرعون {قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}الأعراف106,فهل آمن الفرعون كجهة للضلال أم أعماه ضلاله عن رؤية الحق بعين رأسه...؟؟؟.

إن وجهة النظر التي يحملها فرعون والمتمثلة في إيمان الإجبار قد دفعته بعد أن رأى ما رأى ليقول لجهة الحق {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ }الشعراء29,فتلك حاله وهذا نهجه الذي يمارسه في إضلال وإجبار الناس إما بالإغراء الذي يحدثه مظهر النعمة في نفوس الآخرين, وإما بالقوةِ التي يمنحها المال لأصحابه فيجعلهم قادرين أو متصورين أنهم قادرون على إذلال الآخرين أو إغوائهم, فوجود النعمةِ في أيدي المفسدين قد تزعزع كثيراً من القلوب الضعيفة التي لا يبلغ من يقينها بالله أن تدرك أن هذه النعمة هي إبتلاء وإختبار وأنها كذلك ليست شيئاً ذا قيمة إلى جانب فضل الله في الدنيا والآخرة, فقد روى الإمام أحمد , عن حارثة بن وهب قال: قال رسول الله رسول الله عليه واله وسلم ألا أنبئكم بأهل الجنة, كل ضعيف مستضعف لو أقسم على الله لأبره, ألا أنبئكم بأهل النار؟؟ كل عتل جواظ مستكبر وفي رواية, كل جواظ جعظري مستكبر, أخرجه الشيخان والإمام أحمد.

ويبقى الفرعون على حاله رغم ما جاءه وما شاهده ويأتي دور الملأ في إغراء الفرعون بموسى فقالوا{وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ }الأعراف127, ويوغروا صدره فلم يرتدع أو يرعوي رغم الآيات التي جاءته بعد ذلك هو والملأ {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ}الأعراف133.

والفراعنة اليومَ كذلك في البلاد الإسلامية يمارسون ما مارسه الفرعون في السابق ولكن تحت شعاراتٍ براقة سبقوا فرعون بها بل وتميزوا عنه , بل كان حال الفرعون أفضل من حالهم فقد كان الفرعون يعمل لصالح نفسه وفراعنة اليوم يعملونَ لصالح أسيادهم فقد عطلوا عقولهم وجعلوا من أنفسهم ممرات يمر عليها الكافر للوصول إلى الأمةِ لإفسادها وتغيير مفاهيمها,فلم يدركوا ولم يحاولوا أن يدركوا لأن أي محاولة منهم للإدراك تودي بهم وبعروشهم وبدائلهم حاضرون ليقوموا بنفس العمل بل وأحسن.

لقد استمع فرعون لموسى وأعطاه الوقت اللازم حتى يشرح عقيدته ويريه آيات الله {قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ{106} فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ{107} وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ{108} الأعراف, وأما فراعنة اليوم فلا يملكونَ من أنفسهم مجرد الإستماع للحجة خوفاً من أن يحسب عليهم مساندتهم للإرهاب أو يوصفوا بهذا الوصف فحال فراعنة اليوم كما أخبر ربنا عز وجل على لسان نوح{وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً }نوح7 ,فقلوبهم مغلقة وإحساسهم بالواقع مفقود لتعطل أجهزة العقل عندهم فلا يكادونَ يفقهونَ إلا املاءات الأسياد.

إن فراعنة الأمس واليوم وإن اختلفوا في توجهاتهم وأهوائهم في كيفية معاندة الحق والإستكبار إلا أن آخرتهم واحدة بقدرةِ الله عز وجل لتكون العبرة دائماً واحدة عند من يتدبر ويتفكر, فالخاتمة واحدة وصدق الله العظيم {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ }هود102 ,فبيان رعاية الله وحمايته لأوليائه قائم دائم {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }, وأنزل العذاب والهلاك بأعدائه الذين يغفلون عن آيات الله المتجددةِ المتكررة في دورةِ الحياةِ والموت, وآياته مع رسله ونصره لهم وإهلاكه للمعاندين فقد قالوا في عنفوان قوتهم {وَيَقُولُونَ مَتَى هَـذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ{48} قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ{49} قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ{50} أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ{51}يونس , هذه قصتهم في السابق واليوم ولكنهم لا يتدبرونَ القرآن فالأقفال على العقول والقلوب .

إن انتقال الفرعون من مرحلة بغيه وعَدْوَه واستكباره وعتوه إلى مرحلة ذله وصغاره وهوانه تأتي مباشرةً لا فاصل بينهما وصدق الله العظيم{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}يونس90 ,فقد سقطت عن الفرعون كل أقنعته وكل أرديته التي تنفخ فيه فتظهره لقومه أو للعالم المغرور به كأنه قوة هائلة مخيفة.... في لحظةٍ واحدةٍ يتضائل بل و يتصاغر ويستخذي ويوضع في قفص وصدق الله العظيم{فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا}غافر85ا.

إن قدرة الله تتجلى في كيفية وحالة أخذه للظالم وللفرعون فأخذ الله له في حالة قوته وعنفوان جبروته وليس في حال عجزه وضعفه وهنا البشرى وهي أن الناظر إلى الشطر الأول في الآية يرى أن فرعون {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً}يونس90, أنه قد ملك القدرةَ والقوة وأن موسى وقومه هم المنهزمون الفارون من فرعون المنصور بقوتهِ وعدته وعتاده, فلا يخطر بباله أن فرعون بعد لحظاتٍ سيأخذه الله أخذ عزيز مقتدر , وهنا في الشطر الثاني نرى موسى حين قال له قومه{إنا لمدركون} قال قول الواثق المطمئن لنصر الله {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ }الشعراء62.

هذا هو القول الفصل بين من ينظر إلى الأمور المادية والقدرةِ العسكرية والصناعة بمنأى ومعزل عن قدرةِ الله فلا يكاد يرى إلا هذه الآليات والبوارج, في حين أن الذي ينظر إلى الأمور وإلى الواقع من زاويةِ العقيدةِ وأن الله على كل شيئ قدير وأنه قد وعد عباده بالنصر والتمكين يعتقد اعتقاداً جازماً أن الله متمم وعده على عباده كإعتقاد موسى حين قال { كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}الشعراء62, أما كيف ومتى فهذا يدركه إدراكه لعقيدته بأنه من أمر الله وحده وليس للعبد فيه شيء فهو يعتقد أن الناصر هو الله وأن الله لن يخذل عباده المؤمنين أما متى وكيف فهذا أمره عز وجل.

إن العبرةَ قائمة ما بقي التحدي بين الحق والباطل وصدق الله العظيم {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ}يونس92.


جواد عبد المحسن

من كتاب حديث رمضان 5

إرسال تعليق

0 تعليقات