مفهوم النصر عند المسلمين

مفهوم النصر عند المسلمين

النصـر لغـة :                         
      إعانة المظلوم ... يعني نصره على عدوه . وفي الحديث: كل المسلم على مسلم محرم أخوان نصيران …أي أخوان يتناصران ويتعاضدان … إذا أعانه على عدوه وشد منه . يقول الشاعر أمية الهذلي
أولئك آبائي وهمْمْ لي ناصرٌ      وهم لك إن صانعت ذا معقل
والنصـرة :
      حسن المعونة كما في قول الحق سبحانه وتعالى " مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ " يعني أنه من ظن من الكفار أن الله لا يظهر محمدا صلى الله عليه وسلم على من خالفه فلختنق غيظا حتى يموت كمدا ، فإن الله يظهره ، ولا ينفعه وموته خنقا .
      انتصر الرجل … إذا امتنع من ظالمه . قال الأزهري رحمه الله : " يكون الانتصار من الظالم الانتصاف والانتقام " وانتصر منه … انتقم . قول الحق سبحانه وتعالى مخبرا عن نوح عليه وعلى نبينا أفضل صلاة وأتم سلام " فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ " كأنه قال انتقم منهم ، كما قال "رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ".
    الانتصار … الانتقام ، كما في قول الحق سبحانه وتعالى " وَلَمَنْ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ " وقوله عز وجل " وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ".

نصر الغيث الأرض … غاثها وسقاها قال الشاعر :
من كان أخطاه الربيع فإنمـا           نصر الحجاز بغيث عبد الواحد
      نفهم مما سبق أن النصر لغة هو الإعانة والمنع وحسن المعونة والانتقام .
      درج الاستعمال لمفهوم النصر أنه تعبير عن الغلبة والفوز للمطلوب، وهو نتيجة لفعل معين أو مجموعة أفعال أدت إلى هذه النتيجة فالظفر بالشيء … يعني بذل جهد في سبيل تحقيق الغاية أو الوصول إليها بعكس حصول الشيء … إذ يفهم من حصوله عدم بذل للجهد وإنما هو قد حصل فقط.
فاستعمل مفهوم النصر على أنه تحقق غاية محددة بفعل أو أفعال أدى بمفرده أو مجموعها إلى حصول المطلوب فكان النصر ...
      فالنصر إذن بلوغ غاية بفعل معين أو تحقيق هدف بفعل معين فهو نتيجة (أو تعبير فعل مقصود).

      إن النصر مفهوم لا بد أن ينبع من العقيدة كغيره من المفاهيم التي تنبع من العقيده أيضا كالأجل والرزق .
      مفهوم النصر عند الرأسماليين ينبع من عقيدتهم التي تقوم على أساس فصل الدين عن الحياة ومقياس الأعمال هو المصلحة فكان النصر عندهم هو تحقيق المصلحة بفعل معين ... والذي عيّن هذا الفعل هو المصلحة أيضا .
      فالفعل أو الأسلوب أو الطريق ، تستعمل إذا كانت تؤدي إلى تحقق الغاية أو تحقيق النصر، فأي أسلوب أو فعل أو طريقة توصل تتبع والقاعدة عندهم – الغاية تبرر الواسطة -.
      فالحرب الأولى والثانية قامت على أثر تضارب المصلحة فكانت الحرب طريقة لتحقيق مصلحة معينة ، فكان ظهور بريطانيا على ألمانيا مثلا يعد نصرا لأنه قد تحققت مصلحتها بالحرب، وإسرائيل قد تحققت مصلحتها بواسطة السلام مع الفلسطينيين ويعد هذا نصرا لها. فالحرب والسلام أو المباحثات أو الهدنة أو أي فعل موصل للهدف أو يحقق الغاية يستعمل ولا ضرر في ذلك . فمقياس الأفعال قد تحدد بالمصلحة فقط .
      والصورة الأخرى  أن بريطانيا والحلفاء قد انتصروا في الحرب الأولى على المانيا والدولة العثمانية ، فكان نصرهم على المانيا كما ذكرنا وأما نصرهم على الدولة العلية العثمانية فإنه من وجهة نظرهم وحسب طريقتهم في نشر مبدئهم نصرا مبينا ظاهرا ، أدى إلى تنحية الإسلام من واقع الحياة واستبدال مبدئهم وتم تقطيع أوصال الدولة قطعا سميت فيما بعد دولا بعكس إيطاليا وألمانيا اللتين كانتا في الأصل رأسماليتين ولم تقطع أوصالهما .
      ومفهوم النصر عند الشيوعية ومنها الاشتراكية ينبع ايضا من عقيدتهم المادية ويتطور هذا المفهوم حسب التطور المادي .
      أما مفهوم النصر عندنا كمسلمين فهو أيضا ينبع من عقيدتنا الإسلامية وهو بلوغ غاية معينة بفعل معين أو تحقيق هدف معين بفعل معين .
      عندما نقول غاية معينة ، أو هدف معين احترازا عن غايات أو أهداف لا يجوز لنا كمسلمين أن نبلغها أو أن نحققها . وعندما نقول بفعل معين ، يعني أن الذي عيَّن لنا هذا الفعل هو الشارع حتى لا تتحقق الأهداف أو تبلغ الغايات بأفعال قد نهى عنها الشرع . هذا التعريف غير مانع بدليل أننا نصل إلى غاية معينة هي صلة الرحم بفعل معين هو الهدية وهما شرعيان .
      فبلوغ الغاية أو الظفر بالمطلوب أو تحقيق الهدف يتم بفعل أو وسيلة مستعملة وهذا الفعل قد وصفه الشارع بأوصاف فلا يستعمل أو يفعل الفعل الموصوف من الشارع بالحرام لبلوغ هدف أو لتحقيق غاية وإلا فما معنى وجود الضوابط إذا لم تستعمل في الضبط .
الفرق بين النصر النابع من العقيدة والنصر النابع من الغريزة
قلنا إن النصر هو الإعانة والمنع وإنه نتيجة لفعل ، والفعل هذا إما أن يكون الدافع له العقيدة أو الغريزة، فهو الانتقال من الإحساس بالواقع إلى الفعل مباشرة دون تفكير أو إعمال عقل فالجاهلي الذي قال :
تنادوا فقالوا أرْدَتْ الخيلُ فارسا

فقلـت أعبـد الله ذلكـم الـردي

فجئت إليـه والرماح تنوشـه

كوقع الصياصـي في النسـيج الممدد
 
فدافعْتُ عنه الخيلَ حتى تنفست
 
وحتى علاني قاتـم اللـون أسـود
 
وما أنا إلا من غزية إن غوت
 
غويت وإن ترشـد غزيـة أرشـد
 
 فإنه بمفاهيمه الجاهلية قد رأى أخاه يطعن فاندفع نحوه لينصره دونما استعمال للفكر فالذي حركه صورة أخيه المطعون .
وحمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم ضرب رأس أبي جهل فشجه فقد نصره، والمطعم بن عدي أجار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد نصره ومنعه فهو نصر له قام به بدافع الغريزة فقط.
وأما النصر النابع من العقيدة فإن أوضح صوره تتجلى في بيعة العقبة الثانية. يقول صاحب كتاب حياة الصحابة (وعن ابن اسحق عن عاصم بن عمر بن قتادة رضي الله عنهم جميعا) : أن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العباس بن عبادة ابن نضله اخو بني سالم بن عوف : يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم. قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا أنهكت أموالهم مصيبة واشرافكم قتلا أسلمتموه فمن الآن فهو – والله إن فعلتم – خزي الدنيا والآخرة ، وإن كنتم ترون انكم وافون بما وعدتموه اليه على نهكة الأموال وقتل الاشراف فخذوه فإنه – والله – خير الدنيا والآخرة. قالوا فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله أن نحن وفينا؟ قال: الجنة. قالوا أُبسط يدل ، فبسط يده فبايعوه .
      فكان نصرهم ليس لهذا الشخص وإنما للفكرة التي يحملها بعكس المطعم بن عدي وأبو طالب فإنه نصره لشخصه صلى الله عليه وسلم ولم ينصر فكرته لكونه كافرا .
      اخرج الحاكم ج2 ص 626 عن يحيى بن سعيد قال: سمعت عجوزا من الانصار تقول رأيت ابن عباس رضي الله عنهما يختلفا إلى صرمة بن قيس يتعلم منه هذه الابيات :
نوى في قريش بضع عشرة حجة
 
يذكر لو ألفـى صديقـا مواتيـا

ويعرض في أهل المواسم  نفسـه

فلم ير من يؤوى ولم يـر داعيـا

فلمـا أتانا واسـتقرت به النـوى

وأصبح مسـرورا  بطيبة راضيا

واصبح ما يخشى ظلامة ظا لـم

بعيد وما يخشـى من الناس باغيا

بذلنا له الأموال من جـل  مالنـا

وأنفسـنا عند الوغـا  والتآسـيا

نعادي الذي عادى من الناس كلهم

بحق وإن كان الحبيب  المواتيـا

ونعلـم أن الله لا شـيء غيـره

وأن كتـاب الله أصبـح  هاديـا

      فعندما قال نعادي الذي عادى من الناس كلهم ، قوله هذا قاله بدافع العقيدة التي توحد الفرح والحزن وليس قوله كقول الذي قال وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت.
فالفكرة أن هذا القول مردّه إلى العقيدة التي حملها ونصره للرسول صلى الله عليه وسلم نصر لفكرته ، فدعوة النبي هي دعوته بعدما آمن .
      إن الايمان بأن الله الخالق وأن الرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ عن ربه وأن هذا القرآن من عند الله يوجب عليه نصر الفكرة أو المبدأ كما حدث في بيعة العقبة الثانية .
      فالحق جهة ، فمن كان في جهة الحق وفي فسطاطه فهو منصور بوعد الله عز وجل قطعا سواء أرأى النصر بعينه أم لا ، اقرأ معي قول الحق سبحانه وتعالى: "إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ " غافر 51 . فنصر الله حاصل وآت لمن التزم امر الله ونهيه وثبت في جهة الحق . أخرج أبو احمد الحاكم عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال : مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بياسر وعمار وأم عمار وهم يؤذون في الله تعالى فقال لهم " صبرا يا آل ياسر فإن موعدكم الجنة " وروى ابن الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما نحوه وزاد وعبد الله بن ياسر وزاد وطعن أبو جهل سمية في قلبها فماتت ومات ياسر في العذاب ورمى عبد الله فسقط) ............. ج3 ص 647
      سمية وياسر ماتا وقتلا في مكة وكانا في جهة الحق وهما منصوران .
      فالنصر في قول الله عز وجل: " إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" بظهور هذا الدين والتمكين في الأرض :
‌أ-  نصر للفكرة بظهورها وتلاشي غيرها من الأفكار وحامل هذه الفكرة منصور بالمدح من الله ووعده " وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ(171)إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ(172)وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ(173)" الصافات.
‌ب-                       النصر بالحجة ، ولقد سمى الله الحجة سلطانا في غير موضع وهذه النصرة عامة لمن كان في جهة الحق ، فالنصر بغير الحجة قد يتبدل ويتغير بتغير الواقع ولكن النصر الحاصل بالحجة يبقى أبد الآباد . فالظلمة وإن قهروا شخصا فإنهم لا يستطيعون إسقاط مدحه عن ألسنة الناس ولا يستطيعون قهر فكره ، إقرأ معي قول الحق سبحانه وتعالى: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ".
وانتصر الحق أيما انتصار وأُفحم الذي كفر فلم يدر ما يقول .
‌ج- إن الدعاة إلى الباطل والمروجين له والألسنة التي تلبس الحق بالباطل قد يحصل لهم غلبة قهر لا غلبة حجة وسلطان، ولكنها غلبة آنية لا تدوم . بل تنكشف وتنهدم ويظهر عوارها . وفي المقابل فإن من كان في جهة الحق وإن أصابه أو وقع له نوع من أنواع المخدر فإن ذلك يكون سببا لمزيد ثوابه وعظيم أجره .
     فالظلمة والمبطلون والملبسون على الناس دينهم كما يموتون تموت آثارهم ولا يبقى لهم في الدنيا أثر ولا خبر . وأما من كانوا في جهة الحق فإن آثارهم باقية على وجه الدهر والناس بهم يقتدون في أعمال البر والخير .
     لقد مات عبد الناصر ودفنت بدفنه آثاره واندثرت أفكاره معه، وبقي الفكر الذي من أجله شنق سيد قطب ولم يمت هذا الفكر ، وغيره  كثير . وهذا كله من أنواع نصرة الله عز وجل لمن كان في جهة الحق .
‌د- إن الله قد وعد عباده الصابرين الثابتين بالنصر والتمكين والاستخلاف فقال عز وجل " وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا" النور 55 . وقال " وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ" وقال " وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلًا".

      فكان وعد الله الذي لا يخلف الميعاد لنا بالاستخلاف والتمكين وتبديل الخوف بالأمن كان هذا الوعد دافعا ومحركا لمن كان في جهة الحق بأن يثبت، لأنه بتمسكه بالعروة الوثقى وبحبل الله المتين منصور قطعا مهما أصابه من خوف وتشريد وسجن وقهر آني زائل ، وبعده سيأتي وعد الله لا محالة ، فالدرب والنهج الذي يسير فيه موصل لا محالة .
ضع في يَدَيَّ القيد ألهـب أضلعـي
بالسوط ضع عنقي على السكين
لـن تستطيع حصار فكري لحظـة
أو نزع إيمـاني ونور يقينــي
فالـنور في قلبـي وقلبـي في  يَدَيْ
 ربي وربـي ناصـري ومعيـني
      ولقد انتصر ربنا عز وجل وانتقم للانبياء وللأولياء بعد موتهم كما نصر يحيى بن زكريا بعد أن قتلوه ، فقتل من قتله .
‌ه- قول الحق سبحانه وتعالى " يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ" وإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نصر الله حين قال " قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ(1)لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ" فهل كان واجبا – النصر – بحكم هذا الوعد ... ؟؟؟
      لا يقال أن هذا واجب في حق الله ، لا يقال ذلك لأنه لا يحب شيء على الله ، وإنما شرط الكريم الرحيم الرؤوف على عبده أكثر من كرم ورحمة الوالد بولده شرط على نفسه ووعد " وكان وعده مأتيا ". ولله المثل الأعلى، وكما قيل وعد الكريم الزم من دين اللئيم ، فما ليس بواجب قد يصير واجبا بالوعد .
      نصرنا لدين الله هو التزامنا لأوامره ونواهيه اقرأ وتفهم " يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما  قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله "13 الصف .
      كونوا أنصار الله ، أمرٌ من الله يخاطب به المؤمنين بإدامة النصر والثبات على الحق فكما أن النصر بالجهاد فالنصر أيضا بدوام مراقبة السلوك والامتثال للأوامر .
      أصحاب عيسى عليه السلام قالوا " نحن أنصار الله " وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يقولوا هكذا ، عندما سألهم عيسى عليه السلام كان الجواب لازما لهم فأجابوا وأما الطلب في " كونوا أنصار الله " فلا يوجد سؤال وإنما هو أمر يجب الالتزام به .
      وقول الحق سبحانه وتعالى " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد " فإن لم يتحقق النصر في الدنيا ، تحقق قطعا في الآخرة إن نصرنا الله :
1- إن نصرنا الله وطريقه
2- إن نصرنا حزب الله وفريقه

      فنصرنا لله هو تحقيق مطلوبه باتباع أوامره واجتناب نواهيه ، فالشيطان عدوّ لله يجتهد في تحقيق الكفر وغلبة أهل الإيمان ، والله يطلب قمع الكفر وإهلاك أهله فمن حقق نصرة الله حيث حقق مطلوبه فقد نصر الله . ووعد الله متحقق إما في الدنيا وإما في الآخرة (1).

      قول الحق سبحانه وتعالى " إذا جاء نصر الله والفتح "
وفيــه مباحـث :
1-  الفرق بين النصر والفتح
      النصر هو الإعانة على تحصيل المطلوب ، وأما الفتح فهو تحصيل المطلوب الذي كان متعلقا بحصول الإعانة . فلو لم تحصل الإعانة ما حصل المطلوب .
      وكالتثبيت والثبات على الحق فلو لم يحصل لحصل الزلل ، اقرأ معي قول الحق سبحانه وتعالى "يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء" فنسأله سبحانه وتعالى الهداية والتثبيت والنصر لأنه هو وحده المعين " ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن اليهم شيئا قليلا ".
      والنصر لا يقترن بالفتح لأن كل منهما له واقع مختلف . ألا ترى معي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حصل له النصر في بدر ولم يحصل له الفتح وحصل له الفتح دون النصر كإجلاء بني النضير وحصل له النصر والفتح في مكة .
2-   متى نصر الله ..؟؟؟
      إن النصر لا يكون إلا من الله عز وجل " وما النصر إلا من عند الله " لأنه لا يكون إلا بالله ولا يمكن أن يفعله إلا الله ... وإن الأمور مربوطة بأوقاتها وأنه سبحانه قدر لحدوث كل حادث أسبابا معينة وأوقاتا مقدرة يستحيل فيها التقدم والتأخر والتغير والتبدل ... فإذا حضر ذلك الوقت حضر معه الأثر وإليه الإشارة في قوله تعالى " وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بمقدر معلوم " ... فدل اللفظ في قوله تعالى " إذا جاء نصر الله والفتح " وكأن النصر كان كالمشتاق إلى محمد صلى الله عليه وسلم قد استحق النصر بحكم الوعد له من الله ، فكأنه كان موجودا وإن تخلف أثره، فقبل حدوثه كان منصورا بوعد الله له بالنصر والتمكين ، وعندما حضر الوقت جاء النصر.
      فكل من كان في جهة الحق منصور بوعد الله ولسوف يأتي هذا الوقت وهذا الأثر .

3- متى يسأل الانسان متى ينتهي الأجل أو متى يأتي الرزق أو متى يأتي نصر الله ؟؟؟
      الاعتقاد الذي نعتقده (جازمين) بأن الأجل والرزق والنصر من الله عز وجل، اقرأ معي قول الحق سبحانه وتعالى " فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " وقول الحق " كل نفس ذائقة الموت "، فمصير المخلوق معروف من أن كل مولود ولد سيموت آجلا أو عاجلا . وأن يمر بمراحل . اقرأ معي قول الحق سبحانه وتعالى " يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم بعد علم شيئا " 5 الحج . فالحياة مراحل تبدأ بالتراب وتنتهي أو تفضي إلى الموت لا محالة .
      الشيخ الكبير الطاعن في السن ، والذي أقعده المرض وآلمه وأصبح أولاده له كما كان لهم يسأل، متى أستريح ... متى ينتهي الأجل .
      والفقير المعدوم الذي أقعده الديْن عن مواجهة الناس، وقد أثقله ما يحمل أو يتحمل من أعباء يسأل : متى يأتي الرزق .
      إنها حالة معينة ومرحلة معينة يسأل فيها هذا السؤال، فلم يسأل السؤال في تمام الصحة وشرخ الشباب ولكن في هذه المرحلة وتلك الحالة، ولم يسأل متى يأتي الرزق إلا في حالة الفقر ولم يسأل في حالة الغنى .
      ونفس السؤال متى نصر الله لا يسأل إلا في مرحلة معينة وحالة معينة، فلم يُسأل هذا السؤال في صدر الدولة ، وإنما يسأل منذ ذهبت الدولة وذهبت قوتها ، أو في مرحلة وحالة موصوفة ومعينة.
      اقرأ معي قول الحق سبحانه وتعالة: "حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ(110)" 110 يوسف. واقرأ معي قول الحق سبحانه وتعالى "  أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ(214)" 214 البقرة .
      إن الآيتين تدلان على مرحلة معينة فالبأساء والضراء وصف لحالهم التي وصلوا إليها في تلك المرحلة ومعاناتهم تجاه قومهم ، فمرحلة الاستيئاس هذه واقعها – والله اعلم – أنهم يئسوا من استجابة قومهم لهم يشرحها الحدث الذي رواه البخاري 4327 عن عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّهم عَنْهَا قَالَتْ لَهُ وَهُوَ يَسْأَلُهَا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ ) قَالَ قُلْتُ أَكُذِبُوا أَمْ كُذِّبُوا قَالَتْ عَائِشَةُ كُذِّبُوا قُلْتُ فَقَدِ اسْتَيْقَنُوا أَنَّ قَوْمَهُمْ كَذَّبُوهُمْ فَمَا هُوَ بِالظَّنِّ قَالَتْ أَجَلْ لَعَمْرِي لَقَدِ اسْتَيْقَنُوا بِذَلِكَ فَقُلْتُ لَهَا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا قَالَتْ مَعَاذَ اللَّهِ لَمْ تَكُنِ الرُّسُلُ تَظُنُّ ذَلِكَ بِرَبِّهَا قُلْتُ فَمَا هَذِهِ الْآيَةُ قَالَتْ هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ الَّذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَصَدَّقُوهُمْ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْبَلَاءُ وَاسْتَأْخَرَ عَنْهُمُ النَّصْرُ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ مِمَّنْ كَذَّبَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ وَظَنَّتِ الرُّسُلُ أَنَّ أَتْبَاعَهُمْ قَدْ كَذَّبُوهُمْ جَاءَهُمْ نَصْرُ اللَّهِ عِنْدَ ذَلِكَ. وذكر الثعلبي والنحاس عن ابن عباس قال " كانوا بشرا فضعفوا من طول البلاء ونسوا وظنوا أنهم أخلفوا ثم تلا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله .
      فهم عندما انتهى أمرهم لتلك الحالة من البلاء اضطروا إلى أن "  يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ " متى يأتي طلبا ورجاء واستطالة لمدة الشدة وطول المرحلة لا شكا وارتيابا بوعد الله عز وجل لهم بالنصر .
      إن استقرار الواقع وتفهمه وفهم واقعه عندنا من الوقائع التي تجري كل يوم ومن تكالب الشرق والغرب وتفننه في إيذاء المسلمين المخلصين وتصدي الملبسين على الناس دينهم من علماء السلاطين وغيرهم ليدلّ على أننا نعيش المرحلة المذكورة والحالة المشخصة من أننا في مرحلة الاستيئاس ولسوف يأتي بعدها نصر الله الذي وعدنا به .
      الآية (وزلزلوا) والزل هو تحرك الشيء وزلزلته كررت الفعل وتزلزلت إذا تحركت واضطربت وهذا ما نعانيه " حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ " يقول القرطبي رحمه الله فيه تقديم وتأخير فيصير المعنى حتى يقول الذين آمنوا متى نصر الله فيقول الرسول "ِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ " . فقدم الرسول في الرتبة لمكانته ثم قدم قول المؤمنين . فهم كما يقول القرطبي قد بلغ بهم الجهد حتى استبطأوا النصر . وجاء الجواب الشافي لبيان تناهي الأمر في الشدة من أن نصر الله قريب وإن مع العسر يسرا وبعد الضيق الفرج بإذن الله تعالى .
      والأمر هنا أمر يتعلق باعتقاد حول السؤال ( متى نصر الله ؟ ) فهو إن كان استبطاء الصابر للنصر فقال متى نصر الله متعجلا راجيا وطالبا ممن عنده النصر وحده فهذا لا شيء فيه .
      وأما أن قال – متى نصر الله – شاكا ومرتابا فهو الذي يحتاج إلى إعادة بناء لعقيدته فقد داخلها خلل 
      إن الرسل صلوات الله عليهم جميعا منزهين عن الشك والارتياب اقرأ معي قول الحق سبحانه " وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ(38) " فالذين آمنوا مع نوح ساعدوه في بناء السفينة في الصحراء القاحلة اعتقادا منهم وعدم شك وارتياب بما يخبرهم به .
      ونحن ايضا أمرنا ربنا عز وجل بالصبر ووعدنا بالنصر ، قال تعالى " أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ(2) " وقال لنا آمرا " اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(200) " ووعدنا بالنصر فقال :" ِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ".
      أخرج الحاكم وصححه عن أبي مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله ليجرب أحدكم بالبلاء وهو أعلم به كما يجرب أحدكم ذهبه بالنار فمنهم من يخرج كالذهب الابريز فذلك الذي نجاه الله تعالى من السيئات ومنهم من يخرج كالذهب الأسود فذلك الذي قد افتتن .
      أخرج البخاري وأبو داود والنسائي والإمام أحمد عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ قُلْنَا لَهُ: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قَال:َ كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ ".




(1)  الفخر  الرازي بتصرف ، ج 27 ص 76 .

جواد عبد المحسن
حديث رمضان - 1 

إرسال تعليق

0 تعليقات