أحوال القلب

أحوال القلب

القلوب بيد الله عزو جل يقلبها كيف يشاء، فعن النواس بن سمعان رضي الله عنه يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من قلب إلاَّ وهو معلق بين اصبعين من أصابع الرحمن: إن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه، والميزان بيد الرحمن يرفع أقواماً ويضع آخرين إلى يوم القيامة" قال الحاكم: صحيح، وأقره الذهبي، كذلك فقد خرجه النسائي في الكبرى عن عائشة. وقد كان صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم عن الزيغ والزلل يكثر أن يقول: "اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك"رواه مسلم .
وما سمي القلب بذلك إلاَّ لتقلبه كما قيل:
      ما سمي القلب إلاَّ من تقلبه      فاحذر على القلب من قَلْب وتحويل
والقلب هو ملك الجوارح وسيدها، وبصلاحه تصلح الجوارح وبفساده تفسد: "ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب"سنن البيهقي. ومع ذلك قد يتأثر القلب ببعض ما تقترفه جارحة من الجوارح، فقد خرج الترمذي في سننه وصححه عن أبي هريرة يرفعه: "أن الرجل ليصيب الذنب فيسوّد قلبه، فإن هو تاب صقل قلبه", فالقلوب متفاوتة أشد التفاوت، ومتباينة تبايناً كبيراً، فشتان ما بين قلب المؤمن الصادق والمؤمن المخلط، دعك من قلب المنافق والكافر التي طبع عليها.
    عن أبي البختري عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (القلوب أربعة قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر وقلب أغلف مربوط على غلافه وقلب منكوس وقلب مصفح فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن سراجه فيه نوره وأما القلب الأغلف فقلب الكافر وأما القلب المنكوس فقلب المنافق عرف ثم انكر وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق فمثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والدم فأي المدتين غلبت على الأخرى غلبت عليه)مسند احمد.
فإنَّ القلب القاسي، أبعد القلوب عن الله عز وجل، فما المراد بالقسوة، وما أسباب قسوة القلب وصلابته، وما هي الأسباب المعينة على التخلص من قسوة القلب..؟
                                    القلب القاسي
هو الذي نزعت منه الرحمة، وقابلية الهداية للذكرى والمواعظ، فهو الذي لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً، فهو أشد صلابة وقسوة من الحجارة الصماء، قال تعالى في ذم بني إسرائيل: "ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ"البقرة: 72.
قال القرطبي رحمه الله في تأويلها: (القسوة: الصلابة والشدة واليبس، وهي عبارة عن خلوها من الإنابة والاذعان لآيات الله تعالى. قال أبو العالية وقتادة وغيرهما: المراد: قلوب جميع بني إسرائيل. وقال ابن عباس: المراد قلوب ورثة القتيل، لأنهم حين حيي وأخبر بقاتله وعاد إلى موته انكروا قتله، وقالوا: كذب) [الجامع لأحكام القرآن جـ1/462-463].
لقد ذم الله ورسوله والمؤمنون القلب القاسي، وحذروا من قساوة القلب من ذلك بجانب آيات البقرة السابقة: قوله تعالى: "فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ"[ الزمر: 22]. وقوله تعالى: "فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً" [المائدة: 13] وقوله تعالى: "أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ"[ الحديد: 16].
    قال ابن مسعود رضي الله عنه: (ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية: "أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ ....."،(الحديد16) إلاَّ أربع سنين، فجعل ينظر بعضنا إلى بعض، ويقول: ما أحدثنا؟. [صحيح مسلم]. قال الحسن: استبطأهم وهم أحب خلقه إليه)[الجامع لاحكام القرآن].
    وعن ابن عمر يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإنَّ كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن ابعد الناس عن الله، القلب القاسي"[ الترمذي].
    وقال مالك بن دينار: (ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب).
أسباب قسوة القلب
لاشك أن أسباب قسوة القلب كثيرة، ولكن سنشير إلى أخطرها للحذر منها:
أولاً: الاكثار من الفضوليات:  فضول الأكل، والشرب، والكلام بغير ذكر الله، والنظر، والسمع، والنوم، والمخالطة، والاهتمام بما لا يعني المرء... إلخ، من الأسباب الرئيسة لقساوة القلب، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"[ الترمذي].
وقال كذلك حاثاً على البذل والعطاء خاصة عند الحاجة: "من كان عنده فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان عنده فضل زاد فليعد به على من لا زاد له"[مسلم], فالانغماس في هذه الفضوليات، والسعي الحثيث في تحقيقها يورد الإنسان موارد الهلاك، ويؤدي إلى فساد القلب وقسوته.
ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله قاعدة نافعة: (فيما يعتصم به العبد من الشيطان، ويستدفع به شره ويحترز به منه)، عشرة أسباب[بدائع الفوائد له جـ2/171] آخرها الإمساك عن الفضوليات، فقال: ([الحرز العاشر]: إمساك فضول النظر، والكلام، والطعام، ومخالطة الناس فإن الشيطان إنما يتسلط على بني آدم وينال منه غرضه من هذه الأبواب الأربعة)، ثم شرع في تفصيل ذلك فليرجع إليه من شاء.
وقال بشر بن الحارث: خصلتان تقسيان القلب؛ كثرة الكلام وكثرة الأكل.
وذكر المروذي في كتاب الورع، قال: قلت لأبي عبد الله –يعني أحمد بن حنبل-: يجد الرجل من قلبه رقة وهو شبع؟، قال: ما أرى.
وقال ابن رجب وهو يعدد أسباب قسوة القلب: ومنها كثرة الأكل، ولا سيما إن كان من الشبهات والحرام.
ثانياً: كثرة الضحك: فان كثرة الضحك من أسباب قسوة القلب كذلك، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "..... ولا تكثر الضحك، فإنَّ كثرة الضحك تميت القلب"[ صحيح سنن الترمذي للألباني]، ولهذا لم يضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه إلاَّ في مرات محدودة، وكان غالب ضحكه تبسماً.
ثالثاً: كثرة الذنوب: قال تعالى: "كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ"[ المطففين: 14] هو الذنب على الذنب حتى يسود القلب، قال مجاهد: هو الرجل بذنب الذنب فيحيط الذنب بقلبه، ثم يذنب الذنب فيحيط الذنب بقلبه حتى تُغَشِّي الذنوب قلبه, لله در ابن المبارك القائل:
رأيت الذنوب تميت القلوب           ويورث الـذلَ ادمانُها
وترك الذنوب حياة القلوب         وخير لنفسك عصيانها
قال بعض السلف: البدن إذا عرى رقَّ، وكذلك القلب إذا قلت خطاياه أسرعت دموعه, قال تعالى: "فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً"[ المائدة: 13]. فنقض العهود والمواثيق من علامات النفاق، كما صح بذلك الخبر: "وإذا عاهد غدر[متفق عليه].
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: (قال ابن عقيل يوماً في وعظه: يا من يجد في قلبه قسوة، احذر أن تكون نقضت عهداً فإنَّ الله يقول ("فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ") [المائدة13] , قال القرطبي في تفسير قوله تعالى "وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً": (أي صلبة لا تعي خيراً ولا تفعله، والقاسية والعاتية بمعنى واحد).
أسباب زوال قسوة القلب، والتخلص منها
أسباب زوال القسوة والتخلص منها كثيرة ويسيرة لمن يسرها الله له، وسنشير إلى طرف منها:
أولاً: السبب الأساس والعامل الرئيس لزوال قسوة القلب سؤال الله عزو جل، والتضرع إليه أن يثبت قلبك على الإيمان، وأن يصرفه إلى طاعة الله ورسوله، سيما أنْ تلهج بالآتي:
    "اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، ويا مصرف القلوب صرف قلبي لطاعتك وطاعة رسولك",    وكذلك الإكثار من الدعاء القرآني: "رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ"[ آل عمران: 8
ثانياً: الإكثار من ذكر الله عزو جل
فهو العلاج النافع والبلسم الشافي من القسوة، ولهذا قال تعالى: "الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ"[ الرعد: 28]، وقال: "اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ"[ الزمر: 23].
والذكر الذي يزيل القسوة المراد به تلاوة القرآن بتدبر، وتفكر، وتمعن،.
ثالثاً: الاكثار من ذكر هادم اللذات ومفرق الجماعات وميتم البنين والبنات، ومأيم الأزواج والزوجات -الموت-، فكفى بالموت واعظاً، فقد صح عنه أنه قال: "اكثروا من ذكر هادم اللذات، الموت"[ أحمد والترمذي].
رابعاً: الاكثار من زيارة القبور حَدَّثَنَا أَبُو مُنَيْنٍ : يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ أَبِى حَازِمٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ : زَارَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ ، ثُمَّ قَالَ :« اسْتَأْذَنْتُ رَبِّى أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِى ، وَاسْتَأْذَنْتُهُ أنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يَؤْذَنْ لِى فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ ». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ ونصه من السنن الكبرى للبيهقي,  وقال: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تذكر الآخرة"[مسلم].
خامساً: الاحسان لليتامى والأرامل والمساكين فعن أبي هريرة رضي الله عنه: "أنَّ رجلاً شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه، فقال: إنْ احببت أن يلين قلبك فامسح رأس اليتيم واطعم المساكين"[ مسلم].

سادساً: أكل الحلال الطيب فإنه سبب رئيس لاصلاح القلوب والأبدان ولإجابة الدعاء, عن عدي بن ثابت عن أبي حازم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا أيها الناس إن الله عز و جل طيب لا يقبل إلا طيبا و إن الله عز و جل أمر المؤمنين بما به المرسلين فقال { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات }المؤمنون 51 , و قال  {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم }البقرة 57,  ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب ! يا رب ! و مطعمه حرام و مشربه حرام و ملبسه حرام و غذي بالحرام فأنى يستجاب له)  أخرجه مسلم في الصحيح من وجه آخر عن فضيل بن مرزوق.واستعنت بما كتبه الأمين الحاج محمد والله اعلم.

جواد عبد المحسن
حديث رمضان - 13
2015

إرسال تعليق

0 تعليقات