مفهوم الإشاعة



مفهوم الإشاعة

في قول الحق سبحانه وتعالى ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾
عندما تكلمنا سابقا عن مفهوم القذف وخطره على المجتمع المسلم وما قد يليه من أخطار قد تكون في بعض الأحيان افتك منه واشد على هذا المجتمع من حيث ترابطه وتفككه فكانت الإشاعة هي الناتج عن القذف فلا يمكن أن تحصل إشاعة بدون قذف.
فكانت الإشاعة هي النشر و الاشتراك كأن يقال في هذا العقار سهم شائع إذا كان في الجميع ولم يكن منفصلا وشاع الحديث إذا ظهر في العامة . والإشاعة هي انتشار الخبر بغض النظر عن صدقه وكذبه أو وقوعه أو عدم وقوعه بل إن مجرد انتشاره هو الإشاعة ونشرها لإعلام من لا يعلم بقصد.
والقصد هنا هو (نشر الفاحشة ) وليس غير فلا يتعداها لنشر العلم مثلا لان العلم ليس فاحشه كما اخبر ربنا﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا﴾النور19 ، فالقصد هنا موجود قبل الفعل وحب الوجود يقتضي الفعل فكان الخبر هو الوسيلة لتحقيق هذا القصد المحبوب عند من أراد أن يشيع الفاحشةُ في الذين امنوا.
وهذا بعكس ما هو موجود عند المسلمين من سلامة القلب والتزام الجوارح وكفها تبعا لسلامةِ القلب فحُب المؤمنين متعلق بطاعة الله ورسوله.
إن مفهوم الحب عند العرب هي إرادة الشيء أو الفعل على قصدٍ له.قال الأزهري محبةُ العبد لله ورسوله طاعته لهما وإتباعه أمرهما قال تعالى ﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ﴾آل عمران31  ، ومحبةُ الله للعباد إنعامه عليهم بالغفران قال تعالى ﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾آل عمران32 ؛ يعني انه لا يغفر لهم.
ونقف مرة أخرى عند الآية ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا ﴾النور19 ، وهنا نفهم من السياق انه جل وعلا علق الوعيد والعذاب الأليم بمحبةِ إشاعة الفاحشة بغض النظر أشاعت ووافقت ما أحبوا أم لم تشع وخالفت ما أحبوا ففي كلتا الحالتين تعلق الوعيد بهم لوجود تلك المحبةِ عندهم فوجودها شيء ووقوعها شيء أخر. فقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إني لأعرف قوما يضربون صدورهم ضربا يسمعه أهل النار وهم الهمازون اللمازون الذين يلتمسون عورات المسلمين ويهتكون سورهم ويشيعون فيهم من الفواحش ما ليس فيهم).
والآية قد بدأت بقوله تعالى﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ ﴾ فهؤلاء قوم أحبوا أن تشيع الفاحشةُ في غيرهم وهم الذين امنوا وإرادة الحب عندهم تعلقت بغيرهم فهم ليسوا منهم يعني أنهم ليسو مؤمنين لأنهم لم يحبوا أن تشيع الفاحشة فيهم بل ﴿ يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ النور17
وهذا الفهم فهمناه من سبب النزول من أن رأس النفاق في المدينة عبد الله بن أبي سلول هو الذي تكلم وأشاع  وقاله حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثه وحمنه بنت جحش وتعلق بسيد الخلق محمد صلى الله عليه واله وسلم وزوجه عائشة رضي الله عنها.
أن خطورة الإشاعة تكمن في التجرأ على رمي المحصنات وخاصة بيت النبوة فهؤلاء يعملون على زعزعةِ الثقةِ في الجماعةِ المسلمة على إزالة التحرج من ارتكاب الفاحشة وذلك عن طريق الإيحاء بان الفاحشة موجودة وشائعة في المجتمع وبذلك تشيع الفاحشة في النفوس لتشيع بعد ذلك في الواقع.
من اجل ذلك وصف الذين يحبون أن تشيع بل وتوعدهم الله بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة واخبر عن الوقاية من هذا الأمر وضرورة تقيد المرء بأوامر ربه بل وتقييد مشاعره أكانت حبا أم كرهاً لشخص تدور حوله الإشاعة أو تتعلق به فحبه و كرهه له ليس هو الضابط لأفعاله بل أمر الله ونهيه وصدق الله العظيم ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾المائدة8
هذا من قبل الفرد و المجتمع الذي يحافظ على وجوده وعلى علاقات أفراده  بعضهم مع بعض على قاعدة حسن الظن وظن الخير فانه أليق بهم فلا يمكن لمجتمعٍ أن تترابط علاقاته على سوء الظن وظن الشر في كل أمر وهذا ما فهمه أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري وامرأته –رضي الله عنهما - كما روى الإمام محمد بن اسحق: أن أبا أيوب قالت له امرأته أم أيوب يا أبا أيوب أما تسمع ما يقول الناس عن عائشة -رضي الله عنها- قال نعم وذلك الكذب ... أكنت فاعلت ذلك يا أم أيوب قالت لا والله ما كنت لأفعله فقال فعائشة والله خير منك ...
قلنا إن الإشاعة هي إعلام من لا يعلم بخبر قصده نشر الفاحشة وهذا الخبر إما أن يكون خبر صدق أو خبر كذب فإذا نقل الإنسان ما رأته عينه أو سمعته أذنه في أمر يتعلق  بشهادةٍ مثلاً ولم تبلغ نصابها حد الحد ولم تقبل شهادة في قوله تعالى ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً ﴾النور4 .
أما نقله ما يسمعه من الناس فانه قد أضاف إلى الإشاعة  النميمة والى ترويع المسلمين وإخافتهم وزعزعةِ الثقةِ عندهم فنشر الأخبار وإعلامها للناس كما حدث في غزوة حمراء الأسد بعد أحد أن رجلين من بني عبد الاشهل كانا مثخنين بالجراح يتوكأ احدهما على صاحبه وخرجا مع النبي صلى الله عليه واله وسلم فلما وصلوا حمراء الأسد لمقيم نعيم بن مسعود فاخبرهم أن أبو سفيان بن حرب ومن معه من قريش قد جمعوا جموعهم واجمعوا رأيهم على أن يأتوا إلى المدينة فيستأ صلوا أهلها فقالا (حسبنا الله ونعم الوكيل) فكان هذا الجواب هو جواب كل مسلم إذا اخبر بخبر يفت في العقد حين يقول لهم الناس ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾آل عمران173
وأما ما يحدث منذ أن هدمت الدولة الإسلامية وعاث الكافر فساداً في بلاد المسلمين وفي عقولهم وأصبحت أدواته هي الفاعلة في كل أمور الحياة وأدرك قوة الإعلام وتأثيره على الناس انشأ أجهزة متخصصة لنشر سمومه لحرف المسلمين عن دينهم باختيارهم وذلك إذا نجح بإقناعهم برأيه فأنشأ محطات إذاعة تخضع لسيطرته لتنشر فكره فأنشأ مثلا عندنا (محطة الشرق الأدنى) في القدس سنة 1936 وهيئة الإذاعة البريطانية وغيرها كثير وكلها تدور في نفس الدائرة وتخدم نفس الهدف إما للتضليل كصوت العرب مثلاً وإما للفت في العقد والتخويف والتلبيس.
ومن هنا أخذت الإشاعة تسير وفق منهج مدروس وخطط له مسبقاً حتى يكون التأثير أعمق وأشد فقد كان في السابق يسير وفق الأفواه التي تتكلم كثرةً وقلةٍ وأما اليوم فالأمر مختلف جداً إذ انه يسير بل ويرعى من ثلاث جهات...
أولها: وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة وتخضع برامجها وكل موادها لسياسة الدولة فالصور المتحركة للأطفال تخضع لسياسة الدولة مثلها في ذلك مثل نشرة الأخبار وترتيب الأنباء فترى الأفلام والمسلسلات التي يمارس فيها الزنا والخنا والميوعة و كشف العورات وكل المخالفات أو إن شئت كل أدوات إشاعة الفاحشة تراها وتسمعها في وسائل إعلام الدولة فأصبحت هذه الوسائل التي سخرها الله للإنسان وسائل يستعملها الحاكم الذي هو في الأصل راعٍ يرعى أصبح يستعمل هذه الوسائل لتخريب رعيته وإشاعة الفاحشة بينهم ولم يكتفي بهذا بل وضع القوانين التي تحمي الزاني و الزانية من أي اعتداء إن حصل الرضى فلا يسمى الزنا جريمة...
وثانيها: من المؤسسات و الجمعيات التي تخضع بشكل غير مباشر للدولة وتكون عادةً تنفذ ما تريده هذه الدولة فجمعيات حقوق الإنسان وجمعيات الصداقة مع الدول الأجنبية والمؤسسات المدنية التي تنشأ ولها أهدف محددة تحاول أن تصل إليها عبر طرق ملتوية وعبر المساعدات الطبية و الاجتماعية والحقوق المدنية ورعاية الأطفال والبحث عن المواهب وغيرها من الشعارات التي تستهوي الجهلة من الناس أو أصحاب الحاجات الذين لا تلبي الدولة حاجتهم فيجدونها عند هذه المؤسسات والجمعيات.
أما ثالثها:فهو الجهل الذي استوطن عقول كثير من الناس وعندما أتكلم عن الجهل لا أتكلم عن عدم العلم وإنما أتكلم عن وجود الأفكار الجاهلية التي لا تَمت لديننا بصلة والتي تلقاها أناس تلقياً عقليا ولم يخضعوها لشرع الله فالنوادي المختلطة للأطفال ومن الطفولة مثلا أوقع الكثير من الجهلة في الحرج والضيق.
هذا من جانب ومن جانب أخر نرى أن الربط العقائدي بين الدنيا و الآخرة يكاد لا يذكر إلا ساعة الموت ثم يتراجع أو ينسى ولا يحدث أثر في النفس من كوننا سوف نموت ثم نقف بين يدي ربنا ويسألنا عن ألسنتنا وعن أبنائنا وبناتنا.
فالكلام هو الكلام في معرض التسلية وقتل الوقت والمجاملة ولا تصفه بأنه قذف أو غيبة أو نميمة أو إشاعة فاحشة ... بل هو كلام تسلينا به و قتلنا وقتنا به وهذا ما اقصده من ربط الدنيا بالآخرة ربطا عقائديا فنقول مثلا أن أحكام الستر على المسلم متصوره ولكن ليس لها واقع لعدم وجود الربط العقائدي وفي حديث رسول الله صلى الله عليه واله وسلم (لا يستر عبد مؤمن عورةَ عبد مؤمن إلا ستره الله يوم القيامة,ومن أقال مسلماً صفقته أقاله الله عثرته يوم ألقيامه ,ومن ستر عورته ستر الله عورته يوم القيامة) ، وعن عبد الله بن عمران أن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال (من سره أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يشهد أن لا اله إلا الله وأن محمد رسول الله ويحب أن يؤتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه) ، وعن انس قال قالَ رسول الله صلى الله عليه واله وسلم (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
إن إدراك الصلة بالله الخالق حين القيام بالعمل هو الذي نعنيه من ربط الدنيا بالآخرة الربط العقائدي فأي عمل دق أم جل  صغير أم كبير لا بد أن تدرك صلتك بالله وأن تخضع هذا العمل لأمر الله ونهيه حين قيامك به وصدق الله العظيم ﴿ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ ق18 .


كتاب حديث رمضان 17
جواد عبد المحسن 

إرسال تعليق

0 تعليقات