(إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)

 



(إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)

 ذكرت هذه الآية في سورة هود، تلك السورة التي شيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لذكر آية الاستقامة فيها، إذ قال سبحانه: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ)[2]، “قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشد ولا أشق من هذه الآية عليه. ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له، لقد أسرع إليك الشيب: “شيبتني هود وأخواتها“[3]. وسئل عما في هود فقال: قوله (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) ، وتأتي الآية التي نحن بصدد تفسيرها في نفس السياق وهو سياق الاستقامة وعدم الركون إلى الظالمين، فذكر سبحانه ما يعين على هذه الاستقامة حيث أمر رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بإقامة الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل، قال تعالى: “وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ“

أجمع المفسرون على أن المقصود بالصلاة في هذه الآية الصلوات المفروضة التي بينت السنة تفصيلها، وبالتالي فالخطاب موجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى المؤمنين كافة. فالصلاة هي أنس المؤمن وصلته بربه الرحيم الودود القريب المجيب، هي أس العبادات المغذية للإيمان وزاد الطريق الذي يعين المؤمن على الاستقامة وتحمل تكاليف الشرع، ويتبع الأمر بإقامة الصلاة -وإقامتُها تأديتها كاملة مستوفاة بحضور وخشوع- إخباره بأن الحسنات يذهبن السيئات، هو أمر عام يشمل كل حسنة، أي كل أعمال البر فرضا كانت أو نفلا، والصلاة من أعظم الحسنات.

والمقصود بالآية أن الأعمال الحسنة تكفر السيئات وتذهب المؤاخذة عنها لما فيها من تزكية النفس وإصلاحها.”

قال ابن عاشور: “وإذهاب السيئات يشمل إذهاب وقوعها بأن يصير انسياق النفس إلى ترك السيئات سهلا وهينا، كقوله تعالى: “إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر“، ويكون هذا من خصائص الحسنات كلها، ويشمل أيضا محو إثمها إن وقعت. وكل هذا فضلا من الله على عباده الصالحين قال صلى الله عليه وسلم: ” اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن

والمراد بالسيئات في الآية الصغائر وهي اللمم، لأن الكبائر لا يكفرها إلا التوبة بدليل آيات أخرى كقوله تعالى: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ)[9]، وقوله تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا) ،ومن السنة النبوية، قال صلى الله عليه وسلم: ” الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ لمَا بَيْنَهُنَّ، إِذَا اجْتَنَبَ الكبائر“.

يقترف أحدنا من السيئات والآثام فيحزن لذلك ويندم، وهذا أمر مطلوب ولكنْ على أن لا يصل حزنه على معصيته وخوفه من الله إلى القنوط من رحمة الله تعالى، فالقنوط من رحمة الله أشد إثماً وأعظم جُرْماً، قال تعالى: (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ)، وقال: (إِنَّهُ لا يَيْأسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلا القَوْمُ الْكَافِرُونَ)، فالخوف من الله له حدٌّ ينبغي أن لا يتجاوزه، حتى لا يقنط العاصي من رحمة الله وقبول توبته.

فهذه الآية (إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) تجعل المسلم يكثر من فعل الحسنات حتى لو ظلم نفسه وعصى الله تعالى، بل هو في هذه الحالة أحوج من غيره إلى الحسنات، فالحسنات تذهب السيئات، فلا يكون لسان حاله:... أنا الغريقُ فما خَوْفي مِنَ البَلَلِ بل يعلم أنَّ رحمةَ اللهِ واسعةٌ، قال تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)، وقال سبحانه على لسان ملائكته: (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمَاً).

ولن يدخل أحدٌ الجنةَ بعمله مهما كانت عبادته وتقواه، بل برحمة الله تعالى، قال عليه الصلاة والسلام: (لَنْ يُنْجِيَ أَحَدَاً مِنْكُمْ عَمَلُهُ)، قَالَ رَجُلٌ: وَلا أنت يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: (وَلاَ أنا إِلا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ) متفق عليه.

ومِنْ أفضل ما يعتقده المؤمن هو حسن الظن بالله تعالى، فقد قال الله سبحانه في الحديث القدسي: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي) متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ: أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبَاً فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْباً فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبَّاً يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأخُذُ بِالذَّنْبِ. ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبَاً فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبَّاً يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ. ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبَاً فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبَّاً يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأخُذُ بِالذَّنْبِ، غَفَرْتُ لِعَبْدِي - ثَلاَثَاً - فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ. متفق عليه.

فما أوسعَ رحمة الله بخلقه وعباده، وما أعظمَ هذا الكرم الإلهي الذي يفوق تصوُّرَ البشر وحساباتهم، (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ). وهذه الرحمة لا تدعو إلى معصية الله، وإنما إلى شكر الله على رحمته بعباده، وعدم القنوط من رحمته عند معصيته، بل المسارعة بالتوبة إلى الله والرجوع إليه. (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى).

إرسال تعليق

0 تعليقات