أدب الخطاب مع الله

أدب الخطاب مع الله

أن الإسلام كرم الإنسان أيما تكريم .. وأعطاه الإحترام والتقدير اللائقين. وأهم ما دعانا إليه الإسلام أسلوب الخطاب والتعامل بين جميع طبقات وأفراد المجتمع بدءا من الوالدين .. إلى الإخوة والأخوات الأشقاء .. إلى الأرحام والأقارب إلى الجيران من المسلمين ومن غير المسلمين .. إلى أخر ما يجب علينا من أسلوب شرعي صحيح في الخطاب والتعامل، وقد ورد في حياة الصحابة ما يدعم هذه المواقف من التوجيهات السديدة للنبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه الكرام .. رضي الله عنهم .. رجالا ونساء وورد في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ما يؤيد ذلك ويدعمه.
يعلمنا القرآن الكريم أدب الخطاب مع الله عز وجل وعن الله وذلك من خلال الخطاب في القرآن الكريم والحوار ودعاء الأنبياء وهكذا. فمن ذلك دعاء أيوب عليه السلام (رب إني مسني الضر وانت أرحم الراحمين) فقط يعرض الحال ويرضى باختيار الله له. وكذلك دعاء نوح (رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين). ودعاء زكريا (رب لاتذرني فردا وانت خير الوارثين).
وفي الخطاب مرّ في قصة موسى مع الخضر كيف نسب الخضر الفعل الذي ظاهره شر إلى نفسه "فأردت أن أعيبها"، وفعل القتل لأنه لا يملك أن يزهق روحا من نفسه فخاطب بالجمع فأردنا. ونسب الإبدال لله لأن فيه منة من الله أن يبدلهما ربهما. والجدار لأن ظاهر الفعل خير محض نسبه لله تعالى "فأراد ربك أن يبلغا أشدهما.
وفي حوار ابراهيم مع قومه، قال الله تعالى حكاية عنه ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ۝٧٨ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ۝٧٩ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ۝٨٠ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ۝٨١ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ۝٨٢﴾ [الشعراء: ٧٨-٨٢] نلاحظ أن ابراهيم عليه السلام نسب لله عز وجل الخلق والهداية والإطعام والشراب والشفاء والإماتة والإحياء والمغفرة. لكنه نسب المرض لنفسه (مرضت) تأدبا مع الله.
ومنها قوله تعالى حكاية عن الجن (وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا) فجعل إرادة الشر مبني للمجهول أُريدَ، لكنه نسب إرادة الرَشَد لله عز وجل تأدبا مع الله "أم أراد بهم ربهم رشدا". فجعل ارادة الشر مبنى للمفعول وليس ( للمجهول ) فكل فعل بنى للمجهول يقال مبنى للمجهول الا لو كان الفاعل هو الله تعالى يقال بنى للمفعول بل يقال مبني لِمـا لم يُـسَـمَّ فاعله، كذا تأدبا مع الله عز وجل.
وكذلك الامر فان هناك ادب في مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (البقرة:104)، وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) الحجرات. سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام حينما كان يخطب على المنبر كان يقف على أعلى درجة، فلما جاء بعده الصديق وقف على درجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم هاله الأمر، فنزل درجة، فقال: "ما كان الله ليراني أن أرى نفسي في مقام رسول الله " وعمر قال: " ما كان الله ليراني أن أرى نفسي في مقام أبي بكر " ونزل درجة وفي عهد بني اميّة قال امير لوزيره لِمَ لم يهبط عثمان درجة؟ فقال الوزير لو هبط درجة لكنت انت في قاع بئر.
إن تعويد الزوج والزوجة نفسيهما في بداية الحياة الزوجية على أدب التعامل وحسن الخطاب له أثر طيب في استمرار هذا النمط المحبَّب، وبالتالي بقاء الوئام بين الزوجين وقد أعجبني أحد الأشخاص القرويين حينما عبَّر عن هذه الفكرة قائلاً: "إن قال الزوج لزوجته: أحضري لي كوب ماء، فإنها ستجيب خُذ، وإن قال لها: بعد إذنك يا حياتي أحضري لي الكوب، فإنها ستجيب: تفضل يا نور عيوني".
عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قال: (( إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ وَالْمُتَفَيْهِقُونَ )) قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ، فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ ؟ قال: (( الْمُتَكَبِّرُونَ )) رواه الترمذي. وَالثَّرْثَارُ: كَثِيرُ الْكَلامِ تكُلَّفًا، وَالْمُتَشَدِّق ُ الَّذِي يَتَطَاوَلُ عَلَى النَّاسِ فِي الْكَلامِ. والتشدق منبوذ شرعًا وعرفًا لما فيه من تكلف الكلام، والمبالغة في إخراج الحروف، ففيها نوع من الكِبْر، والتعاظم على الآخرين حيث يخرج الكلام من غير احتياط واحتراز، وقيل أراد بالمتشدق المستهزىء بالناس (دفش) يلوي شدقه بهم وعليهم، ويظهر نفسه كأنه الخبير بالامر ويتكلفه تكلفا وفي لغة العوام (يتبجوأ).
سأل عُمر بن الخطاب عُمرو بن العاص حين ولاه على مصر: إذا جاءك سارق ماذا تفعل به ؟ قال: أقطع يده فقال عمر: وانا إن جاءني جائع قطعت يدك.
يكثر في خطاب الدولة للناس من خلال موظفيها الغلظة واللؤم، وهذا يقوم على اساس ان المراجع للدائرة الحكومية كاذب ومخادع ومدّع ولا بد ان يفعل ما يمليه عليه الموظف ولا يمكن للمواطن ان يثبت صدقه، ويترتب على هذا الامر انفصال وانسلاخ الناس عن الحكومة بل واعتبارها العدو وكذلك الامر بالنسبة للحاكم فعدوّه الاخطر هم الشعب.
والخطاب السياسي المتطرف الذي يسود عالمنا اليوم ترك أثره الكبير على كل مفاصل حياتنا اليومية والاجتماعية والنفسية والاقتصادية والتربوية والفكرية والعلاقاتية والإنسانية وغيرها فليس الاصل (براءة الذمة وحسن الظن)، بل ومع الاسف اصبح العكس فسوء الظن من حسن الفطن كما يقولون، لأن هذا الخطاب الكريه يسعى لزراعة قيم جديدة وبديلة عن قيم الحب والخير والسلام، قيم لا يقبل بها أي إنسان حر ونبيل وسليم في هذا العالم، قيم هي من شريعة الغاب والتوحش والافتراس، لا تمت لقيم السماء ولا لقانون الحب والخير والسلام بشيء، ولكننا نرفض تلك الأفكار والأقوال والأعمال بكل ما نمتلك من حب وخير وسلام، ونقف موقف الرافض والمتمرد والثائر على تلك الأفكار لأنها تمسخنا وتقتلنا وتلغي هويتنا وتهدد وجودنا ومستقبلنا في هذا العالم الكبير المُهدد بزوال قيم الخير والحب والحق والجمال. ونسعى بكل ما أوتينا من قوة لرفض تلك الممارسات والسياسات الخاطئة التي تصاعدت وتيرتها هذه الأيام لغرض زعزعة القيم النبيلة وغرس قيم الشر والظلام، ولكن ذلك يبقى رهين حركة الشعوب وتفاعلها وفاعليتها الجادة في التحرك السلمي والشعبي لإشاعة قيم الخير والسلام في العالم.
والضد بالضد يعرف وهو سوء الخطاب والكلام المسموم المؤلم وبقدر ما فيها من الفكاهة الا ان فيها من سوء الخطاب ما فيها: جاء في التذكرة الحمدونية - (1 / 212) لابن حمدون وفي محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني (1 / 149) بتصرف: كان في بني تميم شخص اسمه «حنظلة» وكان معروفا بسرعة جوابه، حتى لا يكاد أحد يقهره، فتزوج امرأة منهم اسمها «علقمة» فجاءته بعدة أولاد، ولم يسلم له منهم غير ولد واحد سماه «مرّة» وقد كان أسرع من أبيه جواباً مع بشاعة منظر فصدر منه أمر، أوجب سبه من أبيه في قومه فقال: أنت خبيث كاسمك يا مرّة،
فقال: أخبث مني من سماني مرة.
قال: إنك لمر يا مرة.
أجاب: أعجبتني حلاوتك يا أبي يا حنظلة.
قال: تالله لست من الناس.
أجاب: من شابه أباه فما ظلم.
قال: لا رضي الله عن بطن تقلبت فيه.
أجاب: أجل ولا عن ظهر نزلت منه.
قال: ويلك ما تزداد إلا سوء أدب.
أجاب: أتجني من الشوك عنبا.
قال: لقد كنت شؤما على أخوتك حتى ماتوا وبقيت.
أجاب: أعجبتني كثرة عمومتي يا مبارك.
قال: لا أفلحت أبدا.
أجاب: كيف يفلح من أنت أبوه.
قال: ما أحوجك إلى تأديب.
أجاب: الذي نشأت على يديه أحوج مني إليه.
قال: أراحني الله كما أراح اخوتك.
أجاب: تختنق بحبل حتى تموت لتستريح من وجهي.
قال: لأدعون الله عليك.
 أجاب: الذي تدعوه عالم بك
قال: ما يعلم مني إلا خيرا
أجاب: شاكر نفسه يقريك السلام
قال: ما أجد لي خير من السكوت
أجاب: أيمنعك خلقك الذميم
قال: لولا فتوري عنك ما تجرأت علي
أجاب: إذا نفسك فَلُمْ
قال: إن قمت إليك لأوجعنك ضربا
أجاب: ما أنت أشد مني بطشا
قال: أو تضربني إذا ضربتك
أجاب: وأنت في شك بذلك
قال: فإذاً سود الله وجهك
أجاب: ألا أنت بيض الله عينيك
قال: ورم الله منك الأرض
أجاب: إذاً فرق الله بينك وبين العافية
قال: يارب ترزق الناس أولادا حسانا وأنا ترزقني شيطانا
أجاب: أما علمت إن من عصا العصية والحية لا تلد إلا الحية
قيل وانقطع جواب حنظلة ولم يعش بعدها إلا يوما وليلة.


 حديث رمضان 15

جواد عبد المحسن


إرسال تعليق

0 تعليقات