مفهوم التضحية عند المسلمين


مفهوم التضحية عند المسلمين

بكم تبيعون جزيرة كريت؟ فرد الباشا قائلاً: (بالثمن الذي اشتريناها به).
مصدر ضحَّى، والتَّضحية بالذَّات: تضحية الشّخص بمصالحه الذاتيّة في سبيل الآخرين أو من أجل قضيّة ما وأعني بها هنا: التضحية بمعناها العام، ومجالاتها التي لا تحصر، ابتغاء مرضاة الله تعالى، وهي خُلُقٌ سامي هامٌّ نبَّهنا إليه الإسلام؛ فالبَذْل للآخرين لله تعالى بالمال والجهد والوقت والنفس وفيه يقول الشاعر:
يجود بالنفس إن ضنَّ البخيل بها       والجود بالنفس أقصى غاية الجود
لقد كان لنا في رسول الله الأسوة الحسنة، فقد بذل صلى الله عليه وسلم وبذل أصحابه النفس والمال والوقت والحياة وكل شيء في سبيل الله تعالى. ولقد أبرموا صفقة التضحية، فكانت التجارة الرابحة، والجائزة الجزيلة والجنة العالية في قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111].
فقد عاشوا معاني التضحية في كل حركاتهم وسكناتهم في سبيل الله، وبذلوا الجهد الجهيد، والوقت الثمين، في سبيل الله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)  } [التوبة].
واختاروا السلاح على اللقاح، والجياد على الأولاد، ولم تشغلهم أعباء البيت عن الجهاد، ولم تشغلهم الأموال والأعمال عن الخروج في سبيل الله: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [ التوبة: 24].
وكان منهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه الذي بذل كل ماله للدعوة الإسلامية، فلما سأله النبي – صلى الله عليه وسلم: "مَا أَبْقَيْتَ لأهْلِكَ"؟ قال بثقة المؤمن: "أبقيت لهم الله ورسوله". [ أبو داود: 1429، وحسنه الألباني]. وكان منهم أبو الدحداح الذي تصدق بحديقة - أو مزرعة - في سبيل الله لما سمع قول الله تعالى: "مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" [البقرة:245] فقال النبي صلى الله عليه وسلم مبشرًا: " كم من عذق دواح لأبي الدحداح في الجنة " [مرارا ] [ أحمد: 12025, وهو في السلسلة الصحيحة برقم 2964 ] .
وكان منهم صهيب الرومي، وقد كان يعمل في التجارة أيام مكة، فلما أراد الهجرة ليلحق بالمسلمين في المدينة، حبسه المشركون وخيروه؛ بين أن يهاجر ويترك المال، أو يظل في مكة وتبقى له الثروة، فاختار الله وخلف المال، رخيصًا في سبيل الله. فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال مزكيًا: " أبا يحيى، ربح البيع" وتلا عليه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 207] [ الحاكم: 5729].
لقد كانت تضحياتم تتوافق مع علو هممهم وعقيدتهم التي اعتنقوها فسلكوا هذا الطريق وما اعاقهم وعورته، ولقد ضربوا المثل في هذا الميدان فيوم أُحد [السبت 15 شوال 3 هـ - 30 مارس 625 م]، فسطروا أروع لوحات التضحية والفداء: فهذا أنس بن النضر رضي الله عنه لم يشهد بدرًا فشق عليه، فأقسم قائلاً: "لئن أراني الله مشهدًا فيما بعد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ليرين الله ما أصنع". [ابن كثير (السيرة): 3/62]، فلما كانت أحد، حيث تراجع المسلمون، وأُشيع زعم مقتل النبي صلى الله عليه وسلم، فإذ بأنس رضي الله عنه يشق الصفوف شقًا، وهو يقول: "واها لريح الجنة أجده دون أحد"، فثبَّت المسلمين، وقاتل المشركين حتى قُتل، فوُجد في جسده بضع وثمانون من طعنة ورمية ولكمة، وقالت أخت الربيع بنت النضر: فما عرفتُ أخي إلا ببنانه، وفيه نزل قول الله تعالى: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا}. [ابن كثير (السيرة) 3/62].
وأما مصعب ذلك الشاب الذي ترك نعيم الدنيا، وقد كان أنعم الشباب في قريش، وقد كان يُضرب به المثال في جمال الملبس وفخر الحُلة وزهو الطيب، فقاتل في أُحد دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قُتل وكان الذي قتله ابن قمئة الليثي وهو يظن أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فرجع إلى قريش فقال قتلت محمدًا. فلما قُتل مصعب بن عمير أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللواء علي بن أبي طالب، وبعد المعركة لم يجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لمصعب ثوبًا يستره كاملاً يكفنه به. [ابن هشام 2/73]، فقال عبد الرحمن بن عوف: قُتل مصعب بن عمير وهو خير مني، كُفّن في بردة إن غُطي رأسه بدت رجلاه، وإن غُطي رجلاه بدا رأسه، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: غَطُّوا بِهَا رَأْسَهُ وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ الإذْخِرَ". [البخاري:3773].
ويتفقد رسول الله القتلى، ويفتقد سعد بن الربيع فلا يجده فيقول: "مَنْ رَجُلٌ يَنْظُرُ لِي مَا فَعَلَ سَعْدُ بْنُ الرّبِيعِ؟ أَفِي الأحْيَاءِ هُوَ أَمْ فِي الأمْوَاتِ؟". فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الأنصار: أَنَا أَنْظُرُ لَك يَا رَسُولَ اللّهِ مَا فَعَلَ سَعْدٌ، فَنَظَرَ فَوَجَدَهُ جَرِيحًا فِي الْقَتْلَى وَبِهِ رَمَقٌ. قَالَ: فَقُلْت لَهُ إنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَمَرَنِي أَنْ أَنْظُرَ أَفِي الأحْيَاءِ أَنْتَ أَمْ فِي الأمْوَاتِ؟ قَالَ: أَنَا فِي الأمْوَاتِ فَأَبْلِغْ رَسُولَ اللّهِ- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- عَنّي السّلَامَ, وَقُلْ لَهُ إنّ سَعْدَ بْنَ الرّبِيعِ يَقُولُ لَك: جَزَاك اللّهُ عَنّا خَيْرَ مَا جَزَى نَبِيّا عَنْ أُمِّهِ ! وَأَبْلِغْ قَوْمَك عَنّي السلام وَقُلْ لَهُمْ: إنّ سَعْدَ بْنَ الرّبِيعِ يَقُولُ لَكُمْ إنّهُ لا عُذْرَ لَكُمْ عِنْدَ اللّهِ إنْ خَلُصَ إلَى نَبِيّكُمْ- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وَمِنْكُمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ! ثُمّ لَمْ أَبْرَحْ حَتّى مَاتَ [ابن هشام 2/94].
ان المسلم ليدرك انه لا قوام للدعوة الإسلامية بغير تضحية، ولا سبيل إلى رضوان الله وجنته دون تضحية، قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ } [البقرة:214]، وإن الذين لا يضحون من أجل الله، ولا يبذلون المال والجهد والوقت من أجل دعوته، وانغمسوا في الحرص والشره، هم أناس وصفهم الله تعالى بالفسق في قوله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [ التوبة: 24].
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلاً لا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ" [أبو داود 3003، عن ابن عمر، وهو في السلسلة الصحيحة برقم 11].
قال صاحب الظلال: "إن هذه العقيدة لا تحتمل لها في القلب شريكاً؛ فإما تجرد لها وإما انسلاخ منها، وليس المطلوب أن ينقطع المسلم عن الأهل والعشيرة والزوج والولد والمال والعمل والمتاع واللذة؛ ولا أن يترهبن ويزهد في طيبات الحياة. كلا إنما تريد هذه العقيدة أن يخلص لها القلب، ويخلص لها الحب، وأن تكون هي المسيطرة والحاكمة، وهي المحركة والدافعة. فإذا تم لها هذا فلا حرج عندئذ أن يستمتع المسلم بكل طيبات الحياة؛ على أن يكون مستعداً لنبذها كلها في اللحظة التي تتعارض مع مطالب العقيدة". [الظلال 3/1615].
(التضحية أو الفسق) عنوان للمسلم يختصر الكثير من القول فاما ان أن يُمكّن للحق أو يسيطر الباطل، وبغير التضحية يظهر اللص ويقود الظلوم ويسود الغشوم، أولائك الذين لا يتركون حقًا ولا خُلقًا ولا خفًا ولا حافرًا، ولا شيئًا مما تنبت الأرض من قثائها وفومها وعدسها وبصلها إلا أتوْا عليه. وكانت شغلتهم نشر الفقر المُدْقع والذل المُضْرع ولن يزول سلطان هؤلاء إلا بتضحيات الشرفاء المخلصين لله تعالى، وهل من شبه بين من نام عن الحق ومن ارتْصَد له يدفع عنه؟ وصدق الله العظيم {وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [آل عمران: 157] وقوله تعالى {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39]، وقوله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة:120]، فلا يستقيم امر الدنيا على منهج الله ولا تقوم الدعوات إلا بالتضحيات.
ان دليل الصدق الاستعداد مع البذل والتضحية في كل جانب تحتاج إليه الدعـــــوة في وقت كهذا، وهو الوقت الذي يعظم فيه الأجر ويزداد فيه الفضل، وشتان بين من يضـحـي وهو يرى ثمرة الجهد وتلوح له أمارات النصر، وبين من يضحي وقد غابت عن ناظريه أمارات النصر ودلائل التمكين، قال الله عز وجل: ((لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَذِينَ أَنفَقُوا مِنْ بَعْدُ وقَاتَلُوا وكُلاًّ وعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى واللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)).[الحديد: 10]. وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 111]، فطلب منا التضحية ولنا الجنة ان شاء الله برحمته وصدق الله العظيم: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: 9]، ونعى القرآن على مَن لا يضحِّي: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ‘وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [الأعلى: 16].
ان مفهوم التضحية لله تعالى مدرك للمسلمين فلا يوجد في جيوش الفتح التي خرجت لفتح الشام والعراق وبلاد فارس الا ويعلم يقينا انه خارج لحمل هذه الدعوة لاخراج الناس من عبادة العباد لعبادة رب العباد وانه صاحب قضية يبذل روحه دونها فقضيته اولا. ويقابله في ساحات الوغى من يدافع عن مصلحة (أي مصلحة)، فمهما علت هذه المصلحة او تسلح صاحبها فلا ترقى لصاحب القضية فينهزم صاحب المصلحة امام صاحب القضية لان نفسه أغلي عنده من مصلحته فيتخلّى عنها تحت ظرف معين ولا يتخلّى صاحب القضية عن قضيته تحت أي ظرف ولا ينهزم.
عثمان بن سليمان الذي تُنسب اليه الدولة العثمانية، ولد في عام 656هـ/1258م، وهي السنة التي سقطت فيها الخلافة العباسية على ايدي المغول وصفه المؤرخ احمد رفيق في موسوعته (التاريخ العام الكبير) بأنه كان متديناً للغاية، وكان يعلم أن نشر الاسلام وتعميمه واجب مقدس وكان مالكاً لفكر سياسي واسع متين، ولم يؤسس عثمان دولته حباً في السلطة وإنما حباً في نشر الاسلام) ويقول مصر اوغلو: "لقد كان عثمان بن أرطغرل يؤمن إيماناً عميقاً بأن وظيفته الوحيدة في الحياة هي الجهاد في سبيل الله لأعلاء كلمة الله، وقد كان مندفعاً بكل حواسه وقواه نحو تحقيق هذا الهدف". وآخرهم السلطان عبد الحميد هو السلطان الرابع والثلاثون من سلاطين الدولة العثمانية وقد تولى عرش الدولة وهو في الرابعة والثلاثين من عمره. إذ ولد في 16 شعبان عام 1258هـ (1842م). وبين هذا وهذا قرابة الستة قرون ما غيروا وما بدلوا بل كان الاسلام هو دافعهم لكل فعل وقول وقد ارضعوا حب الاسلام وفطموا عليه، فقد تلقى عبد الحميد تعليماً منتظماً في القصر السلطاني على أيدي نخبة مختارة من أشهر رجالات زمنه علماً وخلقاً. وقد تعلم من اللغات العربية والفارسية، ودرس التاريخ وأحب الأدب، وتعمق في علم التصوف، ونظم بعض الأشعار باللغة التركية العثمانية. وتدرب على استخدام الاسلحة وكان يتقن استخدام السيف، وإصابة الهدف بالمسدس، ومحافظ على الرياضة البدنية، وكان مهتماً بالسياسية العالمية ويتابع الأخبار عن موقع بلاده منها بعناية فائقة ودقة ناردة. وكان يرافق عمه في رحلاته الى أوروبا، أثرت رحلة عبد الحميد الى أوروبا في اتباعه سياسة استقلالية تجاه أوروبا. ولم يعرف عن عبد الحميد تأثير أي حاكم أوروبي عليه، مهما كانت صداقته ومهما كانت درجة التقارب بين بلده وبين الدولة العثمانية. ولفت انتباه عبد الحميد أثناء هذه الرحلة الحوار الذي كان يجريه فؤاد باشا الصدر الأعظم العثماني مع بعض الزعماء الأوروبيين: وقد سُئل فؤاد باشا أثناء هذه الرحلة: بكم تبيعون جزيرة كريت؟ فرد الباشا قائلاً: (بالثمن الذي اشتريناها به). وكان يعني بذلك: أن العثمانيين حاربوا في سبيل الحفاظ على جزيرة كريت 27 عاماً كلها حروب، فلا توجد دولة تستطيع التضحية بافرادها او جهدها او مالها ووقتها كما ضحى المسلمون فكان هذا الرد بمثابة سؤال لمن سأل ليسكته ويريه حجمه او استطاعته.


 حديث رمضان 15
جواد عبد المحسن

إرسال تعليق

0 تعليقات