الصيدلة عند المسلمين

الصيدلة عند المسلمين

عرّف البيروني علمَ الصيدلة فذكر إنه "معرفةُ العقاقير المفردة؛ بأجناسها وأنواعها وصُوَرها المختارة لها، وخلط المركبات من الأدوية (بكُنْهِ نُسخها المدونة)، أو بحسب ما يريدُ المريد المؤتمن الصالح".
لقد اشتقت لفظة "صَيْدلاني"من كلمة: "صندل"، والصندل هو نبات طيب الريح، أو خشب معروفٌ طيِّب الرِّيح، وفي القاموس: "الصَّندل: خشب معروفٌ، أجوده: الأحمر والأبيض، محلِّل للأورام، نافع للخَفَقانِ والصداع، ولضعف المعدة الحارة، والحميات"، ومنها الصيدلة: المكان الذي يباع فيه الدواءُ والعطر. وربما كان أبو قريش عيسى الصيدلاني - طبيب المهدي العباسي (ت169هـ/ 785م) - أول من لقِّب بالصيدلاني، والصيدليُّ أو الصيدلاني يعني في عرف البيروني: "هو المحترف بجمع الأدوية على إحدى صورها، واختيار الأجود من أنواعها مفردة ومركبة، على أفضل التراكيب التي خلَّدها مبرزوا أهل الطب".
والمسلمون هم الذين اكتشَفوا الأشربة والمستحلبات والخلاصات العِطرية، إلا أنه من أهم مآثر المسلمين وإنجازاتهم في ميدان الصيدلة والأدوية - إدخالها (أي: إدخال الصيدلة والأدوية) في نظام المراقبة، خصوصًا بعدما فشا الغِش، وفسدت النفوس، وصار همها الربح السريع وجمْع المال، وقد لوحظ أن أشخاصًا كُثرًا كانوا يبيعون الأدوية ويغشُّون الناس إبان عهد المأمون؛ فقد روى القفطي في كتابه "تاريخ الحكماء" وابن أبي أصيبعة في سِفره الضخم "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" أن (يوسف لقوة) الكيميائي عَرَّض - مدافعًا عن الكيميائيين - بأمانة الصيادلة؛ حيث اقترَح على المأمون أن يضع اسمًا من الأسماء لا يُعرَف ويوجَّه إلى جماعة من الصيادلة رسل يسألونهم عن (سقطيثا) فكلهم ذكَر أنه عنده، وأخذ الثمن من الرسل ودفع إليهم شيئًا من حانوته، فصاروا إلى المأمون بأشياء مختلفة، فمنهم من أتى بقطعة حجر، ومنهم من أتى بقطعة وتد ... إلخ. وحصل في معسكر الأفشين (حيدر بن كاوس) وكان قائدا من قوّاد الخليفة المأمون ثم المعتصم، فاقترَح زكريا الطيفوري على الأفشين أن يمتحن الصيادلة على هذا المنوال، وبالفعل فقد تبيَّن للأفشين أن غالبية الصيادلة المرافقين في المعسكر غشاشون، فأمَر الأفشين بإحضار جميع الصيادلة، فمن أنكَر معرفة تلك الأسماء التي وضَعها الأفشين، أذِن له بالمُقام في معسكره، ونفى الباقين عن المعسكر، ونادى في معسكره بذلك، وكتَب إلى المعتصم يلتمس بعثه إليه بصيادلة لهم أديان، ومتطبِّبين مثل ذلك، فاستحسَن المعتصم فعله ووجَّه إليه من سأل، وهكذا استُنَّ امتحان الصيادلة منذ عام 221هـ /836م، وذلك في عهد المعتصم، وهكذا كان المسلمون أول من أنشأ فنَّ الصيدلة على أساس علمي سليم، وأقاموا الرقابة على الصيدليات والصيادلة من خلال وظيفة الحِسبة، التي تقوم على أساس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهذا مِن أوجَبِ واجبات ولِيِّ المسلمين، الذي يترتَّب عليه تعيين من يراه أهلاً للقيام بهذه المهمَّة الشاقة، التي تتطلَّب مِن الذي يقوم بها صفات متميِّزة، لأنها لا تتعلق بالدواء فحسب ولكنها تتعلق بكل ما يمكن ان يؤثر على صحة الناس من معلبات واطعمة مبردة او مجمدة وموافقتها لشرع الله او مخالفتها لها، ليحمل المصانع او الافراد بالتقيد والالتزام بضوابط ولي الامر حفاظا على مصالح العامة.
يقول ماكس مايرهوف: "كانت الرسائل المؤلَّفة في علم الصيدلة خلال هذا العصر لا تُحصى، وهي إما الأدوية المفردة، وأشهر من كَتَب فيها بلا منازع هو ابن البيطار، أو في الأدوية المركبة... ألف ابن البيطار كتاب (جامع مفردات الأدوية)، وكان يجلب أنواع النبات والأدوية من ساحل البحر المتوسط وإسبانيا وسوريا ويدرسها. ووصف في كتابه 1400 عقار طبي، وقارنها بأوصاف أكثر من 150 عالمًا عربيًّا، فكان ثمرة ناضجة لعمق الدراسة، ودقة الملاحظة، وسعة الاطّلاع، ويعدّ أعظم من ألّف بالعربية عن النبات".
ويقول علي عبد الله الدفاع في كتابه (روائع الحضارة العربية الإسلامية): وفي عمليات تحضير العقاقير وتركيبها استخدم الصيادلة المسلمون طرقًا مبتكرة، ظلَّ بعضها معمولاً به حتى الوقت الحاضر منها: 1- التقطير: لفصل السوائل. 2- الملغمة: لمزج الزئبق بالمعادن الأخرى. 3- التسامي: لتحويل الموادِّ الصلبة إلى بخار، ثم إلى حالة الصلابة ثانيةً دون المرور بحالة السيولة. 5- التبلُّور: لفصل بلورات الموادِّ المذابة. 6- التكيس: عملية الأكسدة العادية. وقد كتب العلماء المسلمون في الأدوية مؤلَّفات عدَّة، لعلَّ من أهمِّها (الجامع لمفردات الأدوية والأغذية) لعبد الله بن أحمد المالقي المعروف بابن البيطار 646هـ/ 1248م، الذي كان يعاين منابت النبات، ويتحقَّق من هويته قبل أن يدوِّنه، وقد جمع في كتابه هذا معلومات يونانيَّة، ووصف فيه نحو ألف وخمسمائة عقار طبي؛ بين نباتي وحيواني ومعدني، وذكر طريقة استعماله، وجعلها مرتَّبة طبقًا لحروف المعجم ليَسْهُل الرجوع إليه، وأودعه مقدِّمة تعكس المنهج التجريبي الذي اتَّبعه في تدوين المعلومات التي جمعها؛ فقد ورد في الغرض الثاني من وضعه الكتاب قوله: «صحَّة النقل فيما أذكره عن الأقدمين وأحرِّره عن المتأخِّرين؛ فما صحَّ عندي بالمشاهدة والنظر، وثبت لديَّ بالخُبْر لا بالخَبَر، ادخرته كَنْزًا سريًّا، وعددت نفسي عن الاستعانة بغيري فيه سـوى الله غنيًّا، والتنبيه علـى كل دواء وقع فيه وَهْم أو غلط لمتقدِّم أو متأخِّر؛ لاعتماد أكثرهم على الصُّحُف والنقل، واعتمادي على التجرِبة والمشاهدة حسبما ذكرتُ من قبلُ".
وتجاوز علم الصيدلة الانسان الى مكافحة الأمراض الزراعية فقد كان المسلمون اعلم الأمم بالزراعة فقد عرفوا تفصيلًا وإجمالًا أهمية القضاء على الآفات الزراعية خاصة البادرات الحشرية، واستخدم المسلمون المبيدات الحشرية الكيميائية في مكافحة الآفات الزراعية والسيطرة على الحشرات الضارة في صورة طعوم أو سوائل ترش أو غازات بواسطة التدخين، فالطعوم السامة استخدمها المسلمون لقتل الفئران والكلاب والخنازير والذباب والجراد والنطاط والقوارض الأخرى، فقد استخدموا مبكرًا برادة الحديد مخلوطة بالدقيق أو الخبز بالسمن، كما عرفوا أن تراب الزئبق يقتل الفأر والزرنيخ الأصفر يقتل الذباب برائحته.
وقد توصلوا الى المبيدات المرشوشة واستخدموها فمثلًا كانوا يستخدمون ثمرة الحنظل بعد نقلها من الماء لرش البيوت بها لقتل البراغيث، كما كانوا يرشون البيوت بالماء المذاب به النشادر لقتل جميع الهوام، وتوصلوا للمواد الكمياوية الطيارة (التدخين) فاستخدموا موادًّا كيماوية طاردة طيارة سريعة التبخر من اصل نباتي، كثيرًا ما تكون غير سامة وليس لها أي تأثير ضار على الإنسان والحيوان والنبات، فقد استخدموا الكبريت المدخن لطرد البراغيث، وبخروا البيوت بالكزبرة لطرد الحيات والعقارب.
ووضع العلماء المسلمون في الأندلس العديد من الكتب والمؤلفات الزراعية، ونخص بالذكر منهم: ابن العوام الإشبيلي (القرن 6هـ) الذي وضع كتابه " الفلاحة الأندلسية" على أساس علمي يجمع بين معارف العرب القديمة في الزراعة والنبات، وبين المعارف العميقة التي استفادها من تجاربه المباشرة. وقد ذكر ابن العوام طريقة الري بالتنقيط لأول مرة بالتاريخ والتي نسب اختراعها اليوم إلى العالم الغربي، وأشار ابن العوام في الباب السادس من كتابه بوضوح إلى هذه الطريقة. ولذلك لم يتردد المستشرق ماكس مايرهوف في القول بان كتاب ابن العوام ينبغي أن يكون أحسن الكتب في العلوم الطبيعية. ولأهمية هذا الكتاب فقد تمت ترجمته إلى اللغات المختلفة: كالفرنسية والإسبانية والتركية والأوردية ومقاطع منه إلى اللغة الإنكليزية، وكانت آخر طبعة لـه باللغة الفرنسية عام 1977م، الأمر الذي يؤشر لهذا الكتاب بالنسبة للعلوم الزراعية.
ان استنارة الخلفاء على مر العصور توضح لنا قضية دقيقة فهموها بانهم رعاة لهذه الامة، وحماية ورعاية الامة هي صلب عملهم، والصيدلة والعلاج والتطبيب من اولويات هذا العمل وليسوا وحدهم بل كل من تبوأ منصبا او قيادة واجب عليه رعاية من هم ضمن مسؤوليته امام الله، فحصل الفصل بين التجارة والرعاية، ووجوب الرقابة لوجوب الرعاية، فكان هذا التميّز عندنا في الوقت الذي كانت فيه اوروبا بل وكل البلاد التي لم تشرق عليها شمس الاسلام في ظلمة الجهل والمرض والتخلف.
ان هناك فرقاً بين القرار السياسي والقرار السيادي بالنسبة للدولة المستقلة، فهي دولة مستقلة حقيقة بقراراتها شكلا ومضمونا، وقرارها ينبع منها بحسب وجهة نظرها ولا يوجد عامل خارجي يؤثر على هذا القرار، ومثال القرار السياسي كانضمام بريطانيا للمجموعة الأوروبية، وقرارها السيادي هو ابقاء الجنيه الاسترليني وصورة الملكة عليه، ومجرد التفريط بالقرار السيادي لا يعني الا الانتحار السياسي ومثاله الدولة العلية عندما رضخت لشروط الاسرة الدولية بعدم تحكيم الاسلام في قضايا التجارة الخارجية والسماح بوجود مراقبين لمباشرة تنفيذ الشروط الأخرى.
ان الدولة القائمة القادمة باذن الله عز وجل هي دولة متميزة مستقلة بقراراتها ولن تخضع لاي امر قد يؤثر في اتخاذ قرار سيادي اوسياسي، وهذا ما نحن بصدده فان استغوال الشركات المحتكرة لصناعة الدواء يدفعنا لبلورة كيفية معينة للتعاطي مع هذه القضية والتي تلامس كل بيت من بيوت المسلمين تقريبا، مع الاخذ بعين الاعتبار اننا نحارب وبشدة كل امتياز حصل زمن الغاشم وننكر الملكية الفكرية ولا نتعاطى معها وان حاجتنا للدواء في الدولة من الاهمية بمكان فكان لا بد من التفكير بعناية وتؤدة في هذا الامر، فالامة بحاجة للدواء وهو سلعة يجوز شراوها من الخارج ولكن مع وجود الضابط الذي يضبط هذه التجارة لتخضع لشوط الرعاية.
ان أعداد الصيادلة في الامة الاسلامية ضخم ولسنا بحاجة لاستيراد علماء والمادة الخام موجودة وبكميات لا تكاد تحصى واجدادنا قد قعّدوا القواعد الراسية لهذا العلم ولا يضمحل هذا العلم بالتقادم والكتب التي تحوي تجاربهم وخبراتهم التي هي اصل قد بنى عليها الغرب فروعه موجودة ايضا فما الذي يمنع علماء الامة من اكمال ما بدأه الأوائل ...؟ وظل امير المؤمنين حارسهم...؟؟
فجواز اخذ العلوم التي لا تتعلق بوجهة النظر جائز فيمكن للدولة ان توفد من يتعلم هذه الفنون العلمية التي لا نعلمها ونصنع ما نعلم والاخذ بيد المبدعبن وتقديم ما يلزم لاعانتهم.
اننا حين طرحنا هذا الموضوع لا نطرحه من جانبه الاقتصادي مطلقا وانما نبرز جانبه السيادي وجانبه السياسي، والذي تنعكس جوانبه السلبية على كل مسلم _مع  ان ما تدفعه الامة لهذه الشركات رقم ضخم_ والمتعلق بسلامة الامة وتمام صحتها وعافيتها، وامير المؤمنين لا يساوم في هذه القضية لانه لا يأمن مكر صانع الدواء من غير المسلمين المخلصين كما قال البيروني المؤتمن الصالح"، فصناعة الدواء عند الراسمالي هي تحقيق ربح مادي ليس الا، ولا مكان للمؤتمن الصالح مكان فهمهم تحقيق ربح وهم ليسوا جمعيات خيرية، فاذا لم تحصل القناعة التامة بدواء معيّن لا يسمح بادخاله الى الدولة.
اننا مجسات نتحسس مواقع الخطر داخل المجتمع المسلم في الوقت الذي تكالب الكافر عليه وتواطا الغاشم بل واعانه، ومما ندركه يقينا ان من يهدف الربح والمال فقط ولا ضوابط تضبط افعاله لا يتورع من ان يصنع المرض ليسوق دواءه، فهي بالنسبة له مجرد تجارة وهذا اسلوب للربح، ولا محاسب له ولا احد يتابع افعاله او يفتش عن خطاياه، والامة بين تكالب تاجر وتواطى عميل.

ان وجود مرض امر طبيعي بالنسبة لفرد او لافراد ولكن حين يصير وباء فهذا لا يسكت عنه ولا بد من شرحه وايضاحه او البحث عن علله واسبابه، ومثاله ان تقلبات الطقس واختلاف الاجواء بين ارتفاع وانخفاض لدرجات الحرارة يسبب نزلات البرد والانفلونزا، وهذا لحد الآن طبيعي واما ان تكون الانفلونزا بهذا الانتشار الوبائي فهو امر لا بد ان يكون فيه نظر، ونحن لا نحسن الظن لا بالتاجر ولا بالغاشم، ولا تستثنى شركات الدواء المحلية من هذا الامر لوجود الفساد الاداري والتراخي المهني، والانفلونزا مثال فكيف بالامراض مثل الايدز وغيره، فلا يتأتى ان تكون الدولة مكشوفة لتجار الاطعمة والاشربة والمنظفات وغيرها من المواد الكيميائية .

 حديث رمضان 15
جواد عبد المحسن

إرسال تعليق

0 تعليقات